ولعلَّ الذي دفعه إلى توهّم الديمومة والثبات في قولنا "الطفل سعيد" اعتقاده أنّ الصفة المشبهة "سعيد" و "قويّ" تدلّ على الديمومة- هذا إذا أحسنّا الظنّ به وأنه سمع عمّا يسمّى بالصفة المشبهة- وهو اعتقادٌ غير صحيح، لأنّ من الصفة المشبّهة ما هو صفة عارضة، مثل "عطشان" و "شبعان" و "فَرِحٌ" و "سعيدٌ" ومنها ما هو ثابتٌ أو كالثابت، والثبوت أيضاً أمرٌ نسبي، فقد يلازم صاحبه، وقد ينفك عنه، وهذا ما عناه الرضيّ الأستراباذي حين قال: "الصفة المشبهة ليست موضوعة للاستمرار في جميع الأزمنة" (15).
وأغلب الظن أنّ حكم الكاتب على مثل هذه التراكيب بعدم الصحّة، لخلّوها من الدلالة على الحقائق، وبالتالي فإنّ إطلاق مصطلح (الجملة الاسميّة) عليها خطأ=أمرٌ تسرَّب إليه من الإنكليزية التي تخلو قواعدها من هذا المصطلح وتستخدم ما يسمّى "المضارع البسيط" للدلالة على الحقائق الثابتة والمعتقدات، فرأى حينئذٍ أنّ إلباس العربيّة هذا اللبوس فيه نقدٌ أو إصلاحٌ للقواعد.
والحقّ ما عليه نحاة العربيّة من أنّ الجملة الاسميّة هي التي صدرها اسم، سواءٌ دلّت على حقيقة ثابتة أم متغيّرة، وأمّا مسألة الزمن فيها فشيء مستفادٌ من "الخبر" وطبيعته الاشتقاقيّة غالباً، ومستفادٌ قبل كلّ شيء من السياق والقرينة.
2 - لا يجوز تعدّد الخبر:
اعترض الكاتب على مسألة تعدّد الخبر، لأنّ الخبر الأوّل "قام بالمهمّة" "والاسم بعده فقد وظيفته، فلم يعد يخبر عن المبتدأ" (16).
ولا وجه لهذا الاعتراض، وهو اعتراضٌ قديم قال به بعض النحاة (17)، لأنّ الخبر إنّما هو حكمٌ يطلقُ على المبتدأ، ومن المقبول عقلاً أن يطلق على الشيء أكثر من حكم (18)، فنقول مثلاً: (بلدنا زراعيٌّ، صناعيّ) و (عنترةُ فارسٌ شاعر).
ثمّ إنّ الخبر وإن تعدّدَ لفظاً يظلُّ واحداً من جهة المعنى (19)، فقولنا (بلدنا زراعي صناعي) أي: بلدنا جامعٌ لصفات مختلفة، وكذا المثال الذي بعده.
3 - لا يجوز أن يتوالى مبتدآن:
فإذا قلت "المدينة شوارعها نظيفة" لم يجز لك أن تدّعي أن "المدينة" مبتدأ، وأنّ "شوارعها" مبتدأ أيضاً، "إذ كيف نسمح لأنفسنا أن نسميه [أي شوارع] مبتدأ ولم نبدأ به" (20).
ومثلُ هذا الكلام ينمّ عن ضعف الكاتب في فهم طبيعة الجملة الاسميّة، والعلاقة بين أجزائها، لأنّ المبتدأ في العربيّة لا يشترط فيه التقدم أو السبق دائماً وإن كان هو السابق من حيث المرتبة، بل هو المسند إليه الذي لم يتقدّمه عامل، ويؤلّف مع الخبر جملة اسميّة.
والجملة التي توقّف عندها الكاتب هي من هذا النوع، إلاّ أنّها –في مصطلح النحاة- جملة كبرى تداخل إسنادها، ويعنون بالكبرى تلك الجملة التي يكون صدرها مبتدأ أو ما أصله مبتدأ، وخبرها جملة لا مفرد، فيتحصّل فيها حينئذٍ إسنادان، لا إسنادٌ واحد.
ففي المثال السابق أسند المتكلّم "نظافة الشوارع" إلى "المدينة"، فالمدينة مسندٌ إليه مبتدأ، ثمّ أسند النظافة إلى الشوارع، فالشوارع أيضاً مسندٌ إليه، مبتدأ.
ولو تأملنا هذه الجملة الكبرى لرأينا أنها في الأصل جملة واحدة صغرى، لا مركبة، وهي: شوارعُ المدينة نظيفة، لكن المتكلّم قدّم من أجزائها ما هو موضع اهتمام عنده، وهو "المدينة"، وتقديمُ ما يعتقد المتكلمُ أهميته فاشٍ في اللغة الإنسانية لم تتفرد به العربيّة، فأصبحت الجملة "المدينة شوارع نظيفة"، وهي جملة مفككة لا رابط بين أجزائها، فأُصلحت بالضمير (ها)، فتداخل إسنادها، وسمّاها النحاة جملة كبرى توالى فيها مبتدآن.
فالمسألة إذن لا تقوم على سبقٍ لفظي، بل هي علاقات إسناديّة قصد إليها المتكلّم، وليس للنحويّ إلاّ أن يصفها.
وحتّى لو سلّمنا بشرط التقدّم أو السبق الذي أراده الكاتب –وهو سبق لفظيّ شكلي- فإنّه متحقق في هذه الجملة الكبرى المكوّنة من جملتين، فكلّ من المبتدأين فيها هو المتقدم في جملته، والجملتان هما:
أ-المدينة شوارعها نظيفة.
ب-شوارع المدينة نظيفة.
4 - لماذا المبتدأ اسم وليس فعلاً؟
¥