فالألفاظ الواقعة بعد أحرف الجر ههنا مجرورة، بيد أنّ النحاة لم يكتفوا بهذا الشكل وحركة الأواخر، بل أدركوا بالفطرة اللغويّة السليمة التي يفتقر إليها المؤلف أن أحرف الجر هذه لم تؤدّ معاني خاصّة بها كما هي الحال عليه مع حروف الجر، بل جيء بها لضربٍ من التوكيد فحكموا – من جهة المعنى –على (ظلاّم) بأنّها خبرٌ لـ (ما) العاملة عمل (ليس)، وعلى (ولد) بأنّها مفعول به، وعلى (خالق) بأنها مبتدأ، وعلى (بشير) بأنها فاعل ... ولو كان الشكل معوّلهم لما بحثوا عن مواضع هذه الألفاظ أو عن وظائفها في سياق جُمَلها.
ولا شكّ أنّ هذا الذي سمّاه الكاتب شكلانيّة القواعد هو الذي جعل سيبويه عنده من الجناة مع أنّ هذا الأخير بريء مما رُمي به، ولو تصفحنا كتابه لوقفنا على ما لا يحصى من الشواهد التي تظهر أنّه بنى قواعده على المعنى لا الشكل، ولعلّ مثالاً واحداً من كتابه يثبت ذلك ويجعلنا نتساءل بعده عن الجاني الحقيقي.
قال سيبويه معلقاً على بيت امرئ القيس:
ولو أنّما أسعى لأدنى معيشة * * * * * كفاني ولم أطلب قليل من المال
"فإنما رفع [أي قليل] لأنّه لم يجعل القليل مطلوبه، وإنّما كان المطلوب عنده الملك، وجعل القليل كافياً، ولو لم يُرِد ذلك ونصب فَسَد المعنى" (13).
والذي أراده سيبويه ههنا أنّه لا يصحّ أن تجعل كلمة (قليل) من باب التنازع، بحيث تكون مطلوبة للفعلين المتقدّمين (كفى) و (أطلب) فيصلح فيها الرفع على الفاعليّة للأوّل، والنصب على المفعوليّة للثاني، لأنّ الشاعر –وهو ملك- لا يطلب القليل بل المُلْكَ الذي ضاع منه، أمّا المال فيكفيه منه القليل، ولذا وجب أن تكون كلمة (قليل) مرفوعة على أنها فاعل (كفى)، ولو نصبت على المفعوليّة لـ أطلب فسَد المعنى.
ولا ريب أنّ المؤلف سيشعر بشيء من الخيبة لأنّ تفكير سيبويه لم يجاوز المعنى، وبنى ما بناه عليه وحده.
هذا ما عرض له مؤلّف الكتاب في فصله الأوّل، أمّا في الفصول اللاحقة فقد شرع فيما يمكن أن يسمّى نقداً جزئيّاً تفصيلياً لقواعد العربيّة.
ولمّا كان تتبّع جميع ما في الكتاب يُثقل على القارئ رأيت أن أقتصر على الفصل الثاني لأنّ ما فيه يكفي لإظهار قصده، والفصول اللاحقة ما هي إلاّ تكرار. ويبدو لي أيضاً أن المؤلف زاده من العربيّة قليل، لكنْ تملّكته شهوة الشهرة بالمخالفة والردّ، وظنّ أنّ أسلوب الخطابة، والهزء بالقواعد وأهلها، والإكثار من العجب والاستغراب والاندهاش، قد يلقى صدى عند قارئ استخف به أيّما استخفاف، لكنّه كان واهماً فما جاء به ما هو إلاّ زيف لا يسلم عند أدنى نظر، وإن دلّ على شيء –سوى ما يضمره- فإنه يدل على جهلٍ بالعربيّة وقواعدها.
2 - الفصل الثاني:
سمّاه المؤلف "الكلمات والجمل"، تناول فيه بالنقد: الكلمة، الجملة الاسميّة (الأفعال الناقصة!!، الأحرف المشبهة بالفعل)، الجملة الفعلية (الأفعال حسب زمن وقوعها، حسب اكتمالها، حسب مفعولها، حسب تجرّدها، الأفعال المزيدة، حسب صرفها، حسب صحّتها، حسب فاعلها، حسب إعرابها، الفاعل).
*اعتراضات المؤلّف في الميزان:
أولاً: الجملة الاسميّة:
1 - مصطلح "الجملة الاسميّة: فيه نظر:
يرى الكاتب أنّ الجملة الاسميّة يجب أن يقتصر مفهومها على المعتقدات أو الحقائق العلميّة الثابتة التي لا تتبدّل بتبدّل الزمن، مثل (الأرض كرويّة) و (الله عظيم)، أمّا قولنا (الطفل سعيد) و (زيدٌ قويّ) فلا يجوز أن يسمّى جملة اسميّة، لأنّ "مثل هذا التركيب يغيب عنه تأثير الزمن ويفيد الديمومة والثبات؛ إذ لا يعقل أنّ الطفل كان سعيداً، وهو سعيدٌ الآن، وسيبقى سعيداً في المستقبل، وهذا لا ينطبق على صفات البشر"، وعليه "فمصطلح الجملة الاسميّة من حيث الدلالة والمعنى يحتاج إلى إعادة نظر" (14).
وهذا الذي انتهى إليه هو من السذاجة بمكان، إذ لا يمكن لأحد أن يحكم على تلك الجمل التي سردها، من حيث زمنها ودلالتها، بمعزل عن السياق، أي لا بد أن تكون ضمن كلامٍ يفهمه المتكلّم والسامع، وعليه فإنّ ما تَوَهَّمه من غياب الزمن في قولنا "الطفل سعيد" غير صحيح، لأنّ زمن الجملة مفهوم عند المتكلّم والسامع، وأنا حين أقول لِمَن هو أمامي: "السماء صافية" لا أقصد البتّة أنها كانت صافية وأنّها ستبقى إلى ما شاء الله كذلك، بل سيفهم مني، بالمشاهدة، أنّها لحظة راهنة، هي زمن التكلّم، طال أو قصر.
¥