بيد أن هذه الاتفاقات صارت حبرًا على ورق، ونظرة واحدة إلى سلوك الجيش الصهيوني في فلسطين - أو نظرة واحدة إلى سلوك الجيش الأمريكي في العراق – تكفي لإقناعك أن هذه الاتفاقات صارت شعارات، لا مكان لها في ميادين القتال، إنما ميدانها في أروقة النخب المثقفة، وقاعات المؤتمرات المكيفة.
سرعة الردع
فلما قام الجيش الوثني بهذه القرصنة – غير الأخلاقية - بغتة على حدود المدينة، وأحرق ونهب وقتل .. نَدَبَ نبينُا – صلى الله عليه وسلم – فورًا، وخرج سراعًا في مائتين من المهاجرين والأنصار - يوم الأحد الخامس من ذي الحجة من العام الثاني- فِي طَلَبِهِمْ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ بَشِيرَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ - وَهُوَ أَبُو لُبَابَةَ-، فلا زال سيد الشجعان يطاردهم حَتّى بَلَغَ قَرْقَرَةَ الْكُدْرِ، ثُمّ انْصَرَفَ رَاجِعًا، فَقَدْ هرب أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ [انظر: ابن هشام 2/ 44].
ولقد أحس المشركون بالطلب فجدوا في الهرب، فلما أحسوا بالخطر أخذوا يتخففون من الأزواد التي يحملونها حتى تمكنوا من الفرار ..
ووجد المسلمون أزوادًا كثيرة قد ألقاها المشركون و طَرَحُوهَا فِي الْحَرْثِ، وعامتها جرب فيها سويق [وهو قمح أو شعير تحمص ثم تطحن باللبن والعسل والسمن] فأخذها المسلمون، فسميت غزوة السويق.
...
وفي هذا الموقف دلالة على يقظة القائد الإسلامي وتعقبه لأي محاولة نهب أو إفساد من قبل العدو في أرض الإسلام ..
ورد فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – بملاحقة ميلشيات العدو دلالة على تجريم أسلوب النهب والسلب والتعدي على المدنيين والزراع ..
...
وفيه أيضًا، صورة من صور الشجاعة المحمدية، فأنت ترى في هذا المشهد كيف يركض سيد الشجعان – صلى الله عليه وسلم - وراء الجيش الهارب، وقد انبث الرعب في أحشاء المجرمين، وقد بلغ بهم الفزع أن ألقوا أزاودهم ليتخففوا، ويطلبهم وكأنما لا يريد أن تأويهم أرض ولا جبل، كأنما لا يرضى أن يمر اللقاء دون تصافح بيض الهند واللمم، وهو القائل: " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ " [البخاري: 323، عن جابر].
وقال عنه أمير الشعراء:
واذا مشيت الى العدا فغضنفر ** واذا جريت فإنك النكباء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة ** في الحق لا كبر ولا ظغناء
حرص الجندي على ثواب الله:
ولمّا لمْ يتمكن الجيشُ الإسلامي من القبض على المجرمين، بعد أن استمر رسول الله - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - في مطاردتهم وقد غاب عن المدينة خمسة أيام. خشي الأبطال أن يحرموا ثواب الله، لفشل هذه المناوشة، َفقَالَوا -حَيْنَ رَجَعَ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -: يَا رَسُولَ اللّهِ، أَتَطْمَعُ لَنَا أَنْ تَكُونَ غَزْوَةً؟ .. قَالَ: " نَعَمْ " [ابن سيد الناس 1/ 390].
وفي ذلك درس في استحضار ثواب الله على القليل والكثير في أمر الجهاد، والحرص على ثواب الله في كل أحوال القتال، في النصر والهزيمة، أو في نجاح المهمة أو فشلها.
وفي هذا المشهد – أيضًا – منقبة عظيمة للصحابة، ودليل على حسن بلائهم، وعظيم جهادهم، وسمو إخلاصهم في تحقيق أهداف الأعمال الإسلامية، ورغبتهم الشديدة في النوال الأخروي.
هذه الغزوة:
- درسٌ في إعلاء قيمة النفس المسلمة، والدماء المسلمة، إذ لما قُتل المزارع المسلم ندب القائد جيشًا لملاحقة المجرمين.
- ودرسٌ في إعلاء قيمة الحدود الجغرافية للدولة الإسلامية، حيث رأينا فور وصول الخبر إلى القيادة الإسلامية أن جيش العدو على حدود الدولة؛ لم يتأخر القائد ولم يتوان ولم يعط الدنية في دينه.
- ودرسٌ في إعلاء قيمة الشجاعة، وضرورة التحلي بأخلاق الجسارة، وتنشأة النشء على خصال الجراءة، والإقدام والبسالة، ودراسة مناقب الشجاعة في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – إضافة إلى قراءة تراجم كبار الشجعان على مدار تاريخ الإسلام، أمثال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وخالد بن الوليد والقعقاع، والفاتح والداخل وألب أرسلان، وصلاح الدين وقطز وعز الدين القسام.
ومضة
¥