لقد اعتنى أصحابُ مدرسةِ الحديثِ بالسِّيرةِ النَّبَويَّةِ؛ سواء بالتَّأليفِ المُستقِلِّ أو بتخصيصِ بعضِ الأبوابِ في المسانيدِ والجوامعِ والسُّنن للسِّيرةِ النَّبَويَّةِ والشَّمائلِ والدَّلائلِ والمغازي وأحاديثِ أحكامِ الجِهَادِ ومَنَاقِبِ الصَّحابةِ وفضائلِهم.
وقد لقيتْ السِّيرةُ النَّبَويَّةُ في هذه الكتبِ العِنَايةَ الكثيرةَ من النَّقدِ والتَّحقيقِ؛ لأنَّها نُقلتْ بالأسانيدِ وخضعتْ لموازينِ الجرحِ والتَّعديلِ وعُرِفتْ أحوالُ الرِّجال الذين رووها، ففي الصَّحيحينِ كُتُبٌ مُستقلةٌ للمغازي والسِّيَرِ والفضائلِ ,عدا الأخبارَ المنثورةَ في مختلفِ الموضوعاتِ والأبوابِ المرتبة على الأحكامِ الفقهيةِ, وبخاصةٍ بابُ الجهادِ وأحكامه.
وفي غيرِهما من كتبِ السُّنن مثل سُنن التِّرمذيّ وأبو داود وابن ماجه والنسائي ومستدرك الحاكم وصحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان ومصنَّف عبد الرزاق ومسند الإمام أحمد وموطأ مالك ومسانيد عَبد بن حمُيد والحُميديِّ والطَّيالسيِّ والسُّنن الكبرى للبيهقيِّ ومعاجم الطبرانيِّ وغيرها من دَوَاوين السُّنَّةِ، فإنَّهُ لا يخلُو كتابٌ من هذه المدوَّناتِ الحديثيةِ من أخبار السِّيرةِ والمغازي وما يُلحق بها من تاريخِ الخلافةِ الرَّاشدةِ والفِتن والَحَوادثِ العِظامِ التي أخبر عنها الرَّسُولُ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- 4.
ولكنْ ينبغي ملاحظةُ منهج المحدِّثين عند التَّعامل مع الرِّوايةِ التَّاريخيةِ، فَهُم يتساهلُون في روايةِ الأخبارِ التَّاريخيةِ، كما نلاحظُ عند ثِقاتِ المُؤرِّخين مثل محمد بن إسحق وخليفة بن خيَّاط والطَّبريِّ حيث يُكثرون من الأخبار المرسَلة والمنقطعة. كما أنَّ الطَّبريَّ يُكثرُ النَّقلَ عن رُواةٍ في غايةِ الضَّعفِ مثل هشام بن الكلبي وسيف بن عُمر التميميِّ ونصر بن مُزاحم وغيرهم.
ولا شكَّ أنَّ عدمَ تمحيصِ المُؤرِّخين للأخبارِ كما فعلُوا في الحديثِ، واكتفاءَهم بإلقاء العُهْدةِ على الرُّواةِ المذكورينَ في أسانيدِ الرِّواياتِ ألقى عِبْئاً كبيراً على "المُؤرِّخِ المعاصرِ المسلمِ"؛ لأنَّه يحتاجُ إلى بذلِ جُهْدٍ ضَخْمٍ للوصولِ إلى الرِّواياتِ الصَّحيحةِ بعد فهمِ وتطبيقِ منهجِ المحدِّثين، وهو أمرٌ لم يعُدْ سهلاً ميسوراً كما كان بالنِّسبةِ لخليفة بن خيَّاط أو الطَّبريِّ بسبب تضلُّعِهم في مَنَاهِجِ المحدِّثينَ وطرق سَبْرِهم للرِّواياتِ وتمييزِها، وعلى أيَّةِ حالٍ فنحنُ لا نبخسُ قُدامى المُؤرِّخين حقَّهم وفضلَهم؛ فقد جمعُوا لنا المادةَ الأوليَّةَ بالأسانيدِ التي تُمكننا من الحُكْمِ عليها ولو بَعْدَ جُهْدٍ وعَنَاءٍ5.
ثانياً منهجيةُ المُؤرِّخينَ:
لقدْ سلكَ المُؤلِّفونَ في التَّاريخ مَنهجينِ مُتقاربينِ في ترتيبِ كتبِهم، فطائفةٌ اتخذتِ التَّنظيمَ الموضوعيَّ مع مُراعاةِ التَّرتيبِ الزَّمنيِّ في سَوق الموضوعات سواء في تواريخِ الأُممِ السَّابقةِ أو التَّاريخ الإسلاميِّ بعد البعثةِ النَّبَويَّة.
وطائفةٌ اتَّبعتِ التنظيمَ الموضوعيَّ في تاريخ ما قبلَ البعثةِ النَّبَويَّة لعدمِ وجودِ تاريخٍ زمنيٍّ ثابتٍ ومُستمرٍّ, ولكنَّها إذا جاءتْ للتَّاريخِ الإسلاميِّ رتَّبتْ أحداثَهُ حسبَ السَّنواتِ الهجريةِ وهو المعروفُ بالتَّاريخ الحوليِّ، حيث يسردُ حوادثَ كلِّ سنةٍ هجريةٍ على حِدَةٍ، ثُمَّ التي تَلِيها وهكذا، مُرتَّبةً على التَّسلسلِ الزَّمنيِّ دُونَ النَّظرِ إلى التَّسلسلِ الموضوعيِّ, وقد سلك كلُّ واحدٍ من المنهجينِ مجموعةٌ من المُؤرِّخينَ المسلمينَ.
فَمِنِ الذين اتَّبعُوا منهجَ التَّرتيبِ الموضوعيِّ: أبو حنيفة الدِّينوَريُّ6، ومِن الذين اتَّبعُوا المنهجَ الحوليَّ: خليفة بن خيَّاط ومحمد بن جَرِير الطَّبريُّ7.
ثالثاً منهجيةُ مَن جَمَعَ بين صِفتي المُؤرِّخِ والمحدِّثِ:
¥