تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وما دمنا قد قبلنا هذا (المبدأ) فإنه يمكن الإفادةُ بصورةٍ واسعةٍ من كتب الحديثِ في دراسةِ عصرِ السِّيرةِ النَّبَويَّةِ والخلافةِ الرَّاشدةِ، لأنَّ كتبَ الحديثِ خُدمتْ أكثرَ من كتبِ السِّيرةِ والتَّاريخِ من قِبل النُّقَّادِ، فمثلاً قد تميَّز صحيحا البُخاريِّ ومسلمٍ, وعُرفَ أنَّ كلَّ ما فيهما صحيحٌ بعد الدِّراساتِ النَّقديةِ التي قام بها حُفَّاظٌ كِبارٌ قُدامى ودارِسون مُعاصِرون، وحتَّى الأحرفُ اليسيرةُ المنتقدةُ فيهما صمدتْ أمامَ النَّقدِ؛ لأنَّ أصولهَا معروفةٌ ولم ينفردْ بها البُخاريُّ ومسلمٌ. وما دام الأمرُ كذلك فيُمكن إذاً اعتمادُ ما أورده البُخاريُّ ومسلمٌ من رواياتٍ تتعلَّقُ بالسِّيرةِ والرَّاشدينَ، ثم النَّظرُ في رواياتِ السُّننِ الأربعةِ وموطَّأ مالكٍ التي لقيتْ سَبْراً وتَمحيصاً –أيضاً- رغم أنها لا ترقى إلى درجة الصحيحين ولا تخلو من الضعيف.

إنَّ كتبَ الحديثِ تحوي قدراً كبيراً من أخبارِ السِّيرةِ وإنْ كانت لا تُغطِّي كلَّ أحداثِها، ومن هنا تبرزُ أهميةُ النقد الحديثيِّ لرواياتِ كتبِ السِّيرةِ والتَّاريخِ .. فكبارُ المحدِّثين أمثالُ الحافظِ ابنِ سَيِّدِ النَّاسِ في كتابِهِ (عُيُون الأثرِ في المغازي والشَّمائلِ والسِّيَرِ) والحافظُ الذَّهبيُّ في كتابِهِ (تاريخ الإسلام) عندما كتبا السِّيرةَ النَّبَويَّةَ اعتمدا على الكتبِ السِّتَّةِ (البُخاريِّ ومسلمٍ وأبي داودَ والتِّرمذيِّ والنَّسائيِّ وابنِ ماجه) , لكنَّهما لم يتمكَّنا من الاستغناءِ عن كتبِ السِّيرةِ والتَّاريخِ13.

ضرورة المرونة في تطبيق قواعد المحدِّثين في نطاق التَّاريخ الإسلامي العام:

لاشكَّ أنَّ اشتراطَ الصِّحَّةِ الحديثيةِ في كلِّ روايةٍ تاريخيةٍ نريدُ قبولهَا فيه تعسفٌ؛ لأنَّ ما تنطبقُ عليه هذه الشُّروطُ لا يكفي لتغطيةِ العصورِ المختلفةِ للتَّاريخِ الإسلاميِّ، مِمَّا يُولِّدُ فجواتٍ في تاريخِنا، وإذا قارنا ذلكَ بتواريخِ العالمِ فإنَّها كثيراً ما تعتمدُ على رواياتٍ مُفردةٍ أو مُؤرِّخينَ مجهولينَ، بالإضافةِ إلى ذلكَ فهي مليئةٌ بالفجواتِ .. لذلكَ يكفي في الفتراتِ اللَّاحقةِ التَّوثقُ من عدالةِ المُؤرِّخِ وضبطِهِ لقَبولِ ما يُسجِّلُهُ مع استخدامِ قواعدِ النَّقدِ الحديثيِّ في التَّرجيحِ عند التَّعارضِ بين المُؤرِّخينَ.

إنَّ اشتراطَ الأمانةِ والثقة والدِّينِ في المُؤرِّخ ضروريٌّ لقَبولِ شهادتِهِ على الرِّجالِ والأُممِ وتقويم دَورِهم التَّاريخيِّ، إنَّ مراحلَ التَّاريخِ الإسلاميِّ كلَّها بحاجةٍ إلى إعادةِ تقويمِها من وجهةِ النَّظرِ الإسلاميةِ، وقد تبين مَدَى تغير الصُّورةِ التَّاريخيةِ لفترةٍ ما من تاريخِنا عندما يتناولُها بالبحثِ كُتَّابٌ مُسلمون مُنصفون كما حدث في إعادةِ تقويمِ الدَّولةِ العثمانيةِ14 وفتح ملفِّها من جديدٍ. ويبدو لي أنَّ التغير الذي سيحدث في تصورنا للتاريخِ الأمويِّ والعباسيِّ وما بعدهما من حلقات حتَّى تاريخنا المعاصر سيكون كبيراً جداً، وسيكشف عن مدى الزَّيفِ والتَّحريفِ الذي أصاب تاريخَن15 ..

ولا يسعنا إلا أنْ ندعوَ المُؤرِّخينَ المسلمينَ إلى تقديمِ دراساتٍ مُفصَّلةٍ تكشفُ عن ملامح التَّفسيرِ الإسلاميِّ للتَّاريخِ وعن أبعادِ المنهجِ النقديِّ الذي تُعامَلُ وِفْقَهُ رِواياتُ التَّاريخِ الإسلاميِّ، كَمَا نحذِّرُ شبابَنا من الاعتمادِ في فهمِ أحداثِ التَّاريخِ الإسلاميِّ وتصور عظماء رجالِهِ على رواياتٍ تسوقُها كتبُ التَّاريخِ والأخبارِ دُونَ تمحيصٍ، مما يُعطي صُوَراً مشوهةً لأحداثِ التَّاريخِ الإسلاميِّ؛لتأثر الإخباريين الذي اعتمدَهم الطَّبريُّ وغيرُهُ من المُؤرِّخينَ بالأهواءِ المختلفةِ والاتجاهاتِ المذهبيةِ والسِّياسةِ المتباينةِ التي طبعتْ رواياتهم عن عصرِ الرَّاشدين وما بعدَهُ من عصورِ الأُمويين والعباسيين والعثمانيين، وأنه لابُدَّ من محاولةٍ جادَّةٍ لإعادةِ صِياغةِ التَّاريخِ الإسلاميِّ بأقلامٍ إسلاميةٍ تُؤمنُ باللهِ وبرسولِهِ, وتشعر بدورِ الإسلامِ وأثرِهِ في تاريخِنا وحاضِرِنا ومستقبلِن16.

رابعاً المنهج الموضوعي:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير