روى أبو سهلة مولى عثمان رضي الله عنه أن عثمان قال يوم الدار حين حُصِر:"إن رسول صلى الله عليه وسلم عهد إليّ عهداً، فأنا صابر عليه، قال قيس ابن أبي حازم: فكانوا يرونه ذلك اليوم" رواه أحمد والترمذي، وقال:حسن صحيح (22).
وروت عائشة رضي الله عنها فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا عثمان، لعل الله يقمصك قميصاً فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه حتى يخلعوه" رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
وفي لفظ للإمام أحمد:"إن الله لعله يُقَمِصُّك قميصاً فإن أرادك أحد على خلعه فلا تخلعه، ثلاث مرات، قال النعمان بن بشير لعائشة: يا أم المؤمنين، فأين كنت عن هذا الحديث؟ فقالت: يا بني، والله أُنسيته" (23).
رضي الله عن عائشة؛ نسيت هذا الحديث، فلما قتل عثمان تذكرته، ورضي الله عن عثمان ما نسيه رغم المصيبة التي ألمت به، وهذا من أعظم الدلائل على ثبات عثمان، وشدة امتثاله لوصايا النبي صلى الله عليه وسلم.
وروت عائشة رضي الله عنها:"أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عثمان يوماً فتنحى به، فجعل ُيسارُّه ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر فيها قلنا: يا أمير المؤمنين، ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ عهداً وإني صابر نفسي عليه" رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (24).
لقد كان عثمان رضي الله عنه مسدداً في رأيه، موفقاً في اختياره، وتجاوز الفتنة بأقل الخسائر، وأكبر المكاسب؛ فلقي الله عز وجل وقد حفظ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيته، ولم تتلطخ يداه بدماء معصومةٍ محرمة، بل لم يسفك حتى دماء أعدائه الخارجين عليه، وهم يستحقون ذلك، وقُتِل ظلماً وعدواناً يجد عقبى ذلك يوم القيامة.
إن استمساكه رضي الله عنه بالخلافة حتى آخر قطرةٍ من دمه، مع عدم القتال عليها؛ كان الخيار الحسن بين شرين عظيمين، فلو قاتل عليها لسفكت دماء كثيرة من ضمنها دمه، فكانت الخسائر أكبر. ولو تنحى عن الخلافة لما وفى بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وفي تنحيه عنها فتح لباب شرٍ كبير على الأمة؛ إذ يتولى شؤونها الرعاع والدهماء، يقودهم أصحاب النوايا السيئة من المنافقين والمفسدين، فيعزلون من شاؤوا، ويولون من شاؤوا حسب أهوائهم، ومنصب الإمامة الكبرى ليس ألعوبة في أيدي السفهاء والدهماء، بل هو شأن كبراء الأمة وعقلائها وعلمائها من أهل الحل والعقد.
ولا يفتات على هذا الحق من عامة الناس، إلا من أُشرب الفتنة، كما أُشرب بنو إسرائيل العجل، ولا يطعن فيه لأجل دنيا لم يصبها إلا طلاب الدنيا، وعّباد الأموال والجاه، الذين إن أعطي أحدهم رضي، وإن لم يعط سخط، تعس فانتكس، وإذا شيك فلا انتقش.
جعلنا الله تعالى هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين، وهدانا صراطه المستقيم، وأصلح لنا أحوال الدنيا والدين.
الهوامش:
(1) انظر: فوائد البلوى والمحن للعز بن عبدالسلام (9).
(2) وذلك أن راوي الحديث أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو بوّاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، والأشعريون رضي الله عنهم قدموا عام خيبر سنة سبع من الهجرة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث بين العام السابع والعاشر، وعثمان رضي الله عنه قتل سنة خمس وثلاثين للهجرة، فوقع إخباره عليه الصلاة والسلام بعد ثمان وعشرين سنة، أو بعد خمس وعشرين سنة، أو بينهما.
(3) أخرجه البخاري (3492) ومسلم (2403) وأحمد (4 - 393) وعبد بن حميد (555) وابن حبان (6912) والرواية الثانية لمسلم والرواية الثالثة للبخاري (3490).
(4) كان مبتدأ ذلك من الكوفة، ثم امتد إلى البصرة، حتى وصل إلى مصر، وانظر تفصيل ذلك في: تاريخ الطبري (4 - 251) وتاريخ خليفة (157) والكامل لابن الأثير (3 - 82) وعبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام للدكتور سليمان بن حمد العودة وفيه نقولات مهمة، وتحليلات جيدة، ومقارنات موفقة في هذا الموضوع جزى الله كاتبه خيراً (142133).
(5) انظر: تاريخ الطبري (4 - 351) والبداية والنهاية (7 - 142141) وسير أعلام النبلاء "الخلفاء الراشدون" (193).
(6) البداية والنهاية (7 - 158).
¥