ثم ذكر ما يناقضه ويقرر عقيدته في نورية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فذكر عن حسان بن ثابت 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أنه قال: "لما نظرت إلى أنواره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وضعت كفي على عيني خوفا من ذهاب بصري". انظر: حجة الله على العالمين (ص 49).
قلت: هراء لم نسمعه من أزواجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهن أقرب الناس إليه، ولا من أقرب المقربين إليه من أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ولا حتى من ابنته وفلذة كبده فاطمة رضي الله عنها أو أبنائها.
ثم عقب النبهاني بقوله: "ومن ثم للطافته ونورانيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن له ظل"، واستدل بقول أحدهم:
دخل العالم في ظل الذي * ماله ظل وللأغيار يمحو
ويعلل الحكيم الترمذي الصوفي نفي الظل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - متعالما بقوله: (حتى لا يطأ عليه كافر يكون له مذلة). انظر: ذكره عنه العاقولي في كتابه الرصف لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الفعل والوصف (1/ 86).
قلت: تعليل باهت بارد لا وجه له من الناحية العلمية، ويدل على جهل قائله بالسيرة النبوية وأحداثها، فوطء ظله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا شيء بجانب الأذى الذي لقيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في شعب أبي طالب، أو الروث الذي ألقي عليه وهو يصلي، وإخراجه من مكة وقتل عمه حمزة 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - وشج رأسه وكسر رباعيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
عقيدة الدكتور المالكي
أما المالكي فإنه يستدل لنفي الظل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في سياق كلامه في أحد الموالد المسجلة بصوته التي قرر فيها عقيدته أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نور مادي محسوس يرى وينظر وأنكر أنه نور معنوي، فقال ما نصه:
"وفي هذا يقول شيخ مشايخنا من علماء الشناقطة:
خص نبينا بعشرة خصال * لم يحتلم قط وماله ظلال
والأرض ما يخرج منه تبتلع * كذلك الذباب عنه ممتنع
تنام عيناه وقلب لا ينام * من خلفه يرى كما يرى أمام
إلى آخر الأبيات التي في الخصائص، الشاهد في أنه قال: (لا ظلال)، يعني لا ظل له". انتهى كلامه بحروفه.
قلت: أدلة نفي ظله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا خطام لها ولا زمام، وهناك دليلان على نفي الظل:
الأول: حديث مرسل (عن ذكوان أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن يرى له ظل في شمس ولا قمر). عزاه السيوطي للحكيم الترمذي من طريق عبد الرحمن بن قيس الزعفراني عن عبد الملك بن عبد الله بن الوليد عن ذكوان. انظر: الخصائص الكبرى (1/ 122).
الثاني: عن ابن عباس 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قال: (لم يكن لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ظل، و لم يقم مع شمس قط إلا غلب ضوؤه ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوؤه السراج). ذكره ابن الجوزي في الوفا بدون إسناد. انظر: الوفا بأحوال المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ص412).
وقد عورضت هذه الأحاديث على رغم ضعفها وعدم ثبوتها، فقد ورد في كون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - له ظل حديثان فيهما كلام، لكنهما أقوى من حديثي نفي الظل.
الأول: (عن عبد الله بن جبير الخزاعي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يمشي في أناس من أصحابه فستر بثوب فلما رأى ظله رفع رأسه فإذا هو بملأ قد ستر بها فقال له مَهْ وأخذ الثوب فوضعه فقال إنما أنا بشر مثلكم). قال الهيثمي: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح". انظر: مجمع الزوائد (9/ 21).
قلت: وليس كما قال الهيثمي، فالخزاعي ليس من رجال الصحيح، فقد قال الحافظ في الإصابة (3/ 129): "تابعي أرسل حديثا فذكره أبو نعيم وأبو عمر في الصحابة قال أبو نعيم مختلف في صحبته وقال أبو عمر قيل أن حديثه مرسل وقال أبو حاتم الرازي شيخ مجهول".
الثاني: (عن عائشة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في سفر ونحن معه فاعتل بعير لصفية وكان مع زينب فضل ظهر، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إن بعير صفية قد اعتل فلو أعطيتها بعيرا لك! فقالت: أنا أعطي هذه اليهودية فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهجرها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وأياما من شهر ربيع الأول حتى رفعت متاعها وسريرها فظنت أنه لا حاجة له فيها فبينما هي ذات يوم قاعدة بنصف النهار ورأت ظله قد أقبل فأعادت سريرها ومتاعها). قال الهيثمي: "رواه أبو داود باختصار رواه الطبراني في الأوسط وفيه سمية روى لها أبو داود وغيره ولم يجرحها أحد وبقية رجاله ثقات". انظر: مجمع الزوائد (4/ 323).
قلت: يثبت مشايخ الصوفية والمولد هنا أن زادهم العلمي ومعرفتهم مبنية على الخرافة والأحاديث الواهية والمكذوبة، فالأحاديث التي تثبت الظل لرسول الله وإن كانت ضعيفة إلا أنها تتقوى ببعضها، وأيضا هي من ناحية الإستدلال أقوى من الأثار التي تنفي الظل التي أخذبها مشايخ المولد والمتصوفة لتقرير عقيدتهم في كون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خلق من نور.
والله الهادي إلى سواء السبيل