تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبعد مدة من انطلاقه في العمل ظهرت نتائج دعوته ونشاطه حيث كثرت المدارس العربية الحرة في مدن عمالة الجزائر، وتزايد عدد الملازمين لدروس الشيخ، وصار تمسك الناس بالدين في العاصمة أمرا ظاهرا، وهجر الناس شرب الخمر والميسر ومواطنها، ورجع أكثرهم إلى بيوت الله بعد أن خلت منهم، ولم تصمد أمامه دعوة الطرقية بل وصمد المتعاطفون معهم الذين اختاروا غير منهاج الشيخ في فضحهم وتنفير الناس منهم، يقول الشيخ أحمد حماني:" فأقبل الناس عليه وأثر في الوسط تأثيرا كبيرا، وقل الفساد والسكر والاعتداء، وكان مستشريا في العاصمة، وانخفضت نسبة الجرائم، وتفتحت العقول والأذهان، وزالت منها كثير من الخرافات والبدع والأوهام، وصارت للحركة جمهور غفير، خصوصا من العمال والشباب الذي سماه الشيخ العقبي " الجيش الأزرق" لما كان يمتاز به العمال من لباس البذل الزرقاء".

فأثار كل ذلك قلق المستعمرين فسلكوا مع الشيخ سبلا شتى بغرض ضرب دعوته، منها سبيل الإغراء فعرض عليه منصب الإفتاء فرفض حفاظا على استقلاله وحريته، ومنها إصدار الوالي ميشال قرار منع الشيخ من التدريس سنة 1933 م لما وجد الدعم من بعض الطرقيين، ومنها أنه أصدر منشوره القاضي بغلق المساجد في وجه غير الرسميين الذي اشتهر باسم صاحبه، ولما انضم الشيخ إلى المؤتمر الإسلامي مع ابن باديس والإبراهيمي ولعب فيه دورا بارزا، بلغ الأمر بالنسبة إليهم منتهاه، فحبكت مؤامرة مقتل المفتي " محمود بن دالي كحول" لإحباط مسعى المؤتمر وإسقاط الشيخ العقبي.

كحول المفتي لم يكن طرقيا لكنه رجل باع دينه وأخلص ولاءه لأعداء الإسلام، فكان معارضا لحركة المؤتمر الإسلامي، وكتب برقية للحكومة الفرنسية ينتقص فيها علماء الجمعية، ويصفهم فيها بأنهم لا يمثلون سوى شرذمة من المشوشين الذين يحاولون بث الفوضى في البلاد.

ولما رأته فرنسا عنصرا رخيصا لا ينتفع به حيا أرادت أن تستغله ميتا، فدست له من قتله، وهو رجل معروف بالإجرام يقال له " عكاشة"، فنفذ هذا الأخير جريمته يوم 2 أوت 1936 م في الوقت الذي كان فيه العقبي وسائر ممثلي المؤتمر مجتمعين في الملعب البلدي ـ 20 أوت حاليا ـ يشرحون للأمة المطالب التي تقدموا بها إلى الحكومة الفرنسية، فلما ألقي عليه القبض ادعى الجاني أنه تسلم من العقبي خنجرا من سنعب وسعادة ومبلغ 30000 فرنكا، فاعتقل العقبي ورفيق له وزج بهما في السجن، وأغلق نادي الترقي، وضيق على أعضاء الجمعية في العاصمة، واحتشدت الجماهير وتجمعت تلقائيا احتجاجا على اعتقال الشيخ وصاحبه فكادت تحدث فتنة عمياء لولا أن توجه إليهم ابن باديس والإبراهيمي بأن يقابلوا الصدمة بالصبر والتزام الهدوء والسكينة.

قال الإبراهيمي ـ الآثار:1/ 265 ـ: " وكان هذا أول فشل للمكيدة ومدبرها ". فقضى الشيخ في السجن ستة أيام، ثم تراجع عكاشة عن تصريحاته بعد ذلك وأنكر أن تكون له علاقة بالعقبي وصاحبه، فأفرج عنهما بصفة مؤقتة، ووضعا تحت المراقبة مع إمكانية التوقيف عند الضرورة، ثم لم يفصل في القضية إلا بعد ثلاث سنوات، حيث حكم ببراءة العقبي وصاحبه وحكم بالسجن المؤبد على شخصين، وبعشرين سنة على شخص ثالث، وذلك بتاريخ 28 جوان 1939 م.

ثانيا: هل أثرت الحادثة على دعوة الشيخ؟

إن هدف تلك المؤامرة كان واضحا جليا وهو إفشال المؤتمر وإسقاط العقبي وضرب دعوته، فهل وصلت فرنسا إلى تحقيق هدفها الثاني؟

قد اختلفت في ذلك الأنظار والتحليلات، وجنح أغلب الكتاب إلى أن الحادثة قد أضعفت الشيخ وأثرت على مواقفه من بعدها، لكن الذي نراه خلاف ذلك فإن الشيخ ما أوقفه عن الدعوة إلا المرض، وقد أوضح الإبراهيمي ضد ما قرره هؤلاء فقال ـ الآثار: 1/ 279 ـ:" ومن آثار هذه الحادثة على الأستاذ العقبي أنها طارت باسمه كل مطار، ووسعت له دائرة الشهرة حتى فيما وراء البحر، وكان يوم اعتقاله يوما اجتمعت فيه القلوب على الألم والامتعاض، وكان يوم خروجه يوما اجتمعت فيه النفوس على الابتهاج والسرور" ومما استند إليه هؤلاء الكتاب ـ وليس بشيء ـ خلاف الطيب العقبي مع الشيخ ابن باديس في قضية برقية التأييد لفرنسا ضد ألمانيا، وذلك أن الهيئة الإدارية للجمعية اجتمعت في 23 سبتمبر 1938 م لدراسة الأمر، فكان العقبي مع إرسال برقية التأييد، لأن هذه البرقية ستجعل فرنسا لا تتعرض لنشاط الجمعية وتخفف من تضييقها عليها على الأقل، وذلك باعتبار مواصلة الدعوة أولى الأولويات، بينما اعتبر ابن باديس البرقية نوعا من الولاء لفرنسا وموافقة صريحة على تجنيد الجزائريين، فلما احتد النقاش بين الطرفين عرض الأمر على التصويت، فكانت النتيجة 12 صوتا موافقا لرأي ابن باديس، مقابل 4 أصوات فقط موافقة لرأي العقبي، وعندها استقال العقبي من المجلس الإداري واحتفظ بعضويته في الجمعية، وبمناسبة هذه القضية يقول محمد العيد آل خليفة:

خصمان فيما يفيد الأمة اختصما ... إياك أن تنقص الخصمين إياك

كلاهما في سبيل الله مجتهد ... فلا تلومن لا هذا ولا ذاك

وبعدها اضطرت الجمعية إلى توقيف جريدة البصائر لكي لا ترغم على نشر ما لا ترضاه، فأعاد العقبي إصدار جريدته الإصلاح في 28 ديسمبر 1939 م والتي استمرت إلى العدد 73 الصادر في 3 مارس 1948 م.

والذي ينبغي الوقوف عنده هنا هو روح الأخوة والتعاون التي بقيت قائمة بين الشيخ العقبي وبين رجال الجمعية رغم انسحابه من الهيئة الإدارية للجمعية، فقد هنأ الإبراهيمي العقبي لما أصدر جريدة الإصلاح ونشر ذلك في 11 جانفي 1940 م، وكذلك اشتراك العقبي والإبراهيمي في تنظيم الهيئة العليا لإغاثة فلسطين، التي نشر خبرها في 21 جوان 1948 م، فترأسها الشيخ الإبراهيمي وكان الشيخ العقبي أمين مالها، وقد شهد الشيخ الإبراهيمي بأنه الروح المدبرة لتلك الهيئة، كما شارك إخوانه رجال الجمعية في أعمال أخرى منها مواصلة المطالبة بتحرير المساجد وفتحها للعلماء الأحرار.

يتبع

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير