وقد أورد في هذا الكتاب قصيدة يذكر فيها لكل منزل من المنازل الواقعة في مسير الحج من البصرة إلى مكة مخمسًا [كتاب المناسك، ص545 - 561] هذه القصيدة من أقدم الآثار التي تعطي صورة واضحة لطريق الحج من عراق العجم ... إلى مكة المكرمة، وهذا الطريق الذي كان عامرًا لقرون عديدة، وكان حُجّاج عراق العرب والعجم يسلكونه للتشرف بالحج. وقد أتبع قصيدته هذه بقصيدة أخرى في وصف المنازل الموجودة بين البصرة ومكة.
محورية مكة في النصوص الجغرافية الكلاسيكية
إنّ كل ما هو مدوّن بالعربية في المصادر الجغرافية الفارسية القديمة حول الحجاز، وخاصة الحرمين الشريفين، على أساس هذه النظرية أنّ مركز الأرض هو الكعبة المعظّمة. وهذا الاعتقاد بالمركزية كان معتمدًا على معطيات دينية قبل أن تكون جغرافية. فعلى سبيل المثال، نرى في "المسالك والممالك" لأبي إسحاق إبراهيم الإصطخري، من مدن فارس، (الذي له نصوص عربية وفارسية قديمة من القرون الهجرية الأولى) يبدأ بحثه بـ (ديار العرب). وقد جاء في وصف ديار العرب ما ترجمته: تبرّكًا وتيمّنًا بديار العرب وأطرافها؛ لأنّ القِبْلة بها وهي أمّ القرى، وبذلك الموضع لا يسكن غير العرب والأرض خاصة بهم ولا يشاركهم فيها أحد. ["المسالك والممالك" ترجمة محمد بن أسعد بن عبد الله التستري، إعداد أيرج أفشار، طهران، 1414هـ].
ويليه وصف جزيرة العرب وأماكنها، ثم يستعرض شرحًا دقيقًا لمكة وأماكنها التاريخية، ثم يتناول المدينة المنوّرة ويعطي توضيحات وافية وشافية.
هذه العبارات قد وردت بتفاوت يسير في "أشكال العالم" لأبي القاسم بن أحمد الجيهاني ["أشكال العالم"، إعداد فيروز المنصوري، طهران، به نشر، 1408هـ].
إنّ أقدم الآثار الجغرافية المدوّنة في العالم الإسلامي مع التأكيد على علم المنازل والمراحل هو "المسالك والممالك" لأبي القاسم عبيد الله بن عبدالله بن خرداذبة (المتوفَّى سنة 272 أو 300هـ). فإنّ هذا العالم الإيراني كما ينكشف من اسم جدّه كان من أسرة مجوسية وقد اعتنق جدّه الدِّين الإسلاميّ.
والحديث عن الحجاز يأتي في سياق الكلام عن طريق البصرة إلى الحجاز حيث كان يستفيد منه الحجاج، فيستعرض المنازل والمراحل المختلفة بين مدن الحجاز، ويقدّم توضيحات مفصّلة حول الطرق التي كان يسلكها الحجاج للتنقل بين أكناف مكة والمدينة. ["المسالك والممالك"، طبعة ليدن وأوفسيت، مكتبة المثنى ببغداد، ص130 - 134؛ وانظر كذلك "الخراج" لقدامة بن جعفر (المطبوع مع "المسالك والممالك") ص187 - 192. قدامة ابن جعفر في هذا الكتاب نظرًا لأهمية مكة قبل أن يذكر الطرق يشرع أوّلاً في طرق مكة والمدن الأخرى، ثم يبدأ البحث عن بغداد، وبهذا الترتيب يصرّح بأهمية هذا الأمر.
قال في ص193: وإذ قد ذكرنا الطريق إلى مكة من كل جهة واتبعنا ذلك بالطريق إلى أكناف الجنوب مثل اليمن وما يتصل بها من اليمامة وعُمان البحرين ... فلنتبع ذلك بالطريق إلى ما تنحرف إليه تلك الجهات من نواحي المشرق ... ولنبدأ بمدينة السلام]. ومن الأمور التي ذكرها هو ما أفاده ["المسالك والممالك"، ابن خرداذبة، ص129 - 130].?في مسير هجرة الرسول ومن الأمور التي تدلّ على عمق الحب والعلاقة الدينية الوافرة بهذه الديار المقدسة هو الاهتمام بتبيين مسير الهجرة النبوية. وهكذا قد أعطى توضيحًا حول حدود الحرم. وهذا التوجه أيضًا يشاهد في كتاب "صورة الأرض" لابن حوقل، الذي كان مؤلفًا عربيًا، ويبدو أنه كان من أهل نصيبين، وقد أهدى كتابه إلى سيف الدولة الحمداني (ت356). فإنه بدأ كتابه بديار العرب، ويستدل على ذلك؛ لأنّ القِبْلة بها ومكة فيها، وهي أمّ القرى، وبلد العرب وأوطانهم التي لم يشركهم في سكناهم غيرهم ["صورة الأرض"، ليدن، 1938م، ص18].
ويقول ابن حوقل في مقدمة كتابه:
وقد فصلت بلاد الإسلام إقليميًّا وصُقعًا صقعًا وكورة كورة لكل عمل، وبدأت بذِكْر ديار العرب، فجعلتها إقليمًا واحدًا؛ لأنّ الكعبة فيها ومكة أُمّ القرى وهي واسطة هذه الأقاليم عندي. ["صورة الأرض"، ص5 - 6].
وعبارته الأخيرة (وهي: واسطة هذه الأقاليم عندي) تكشف عن رؤية دينية حاكمة على فكره الجغرافي. فإنه بعد أن بدأ كتابه بالبحث عن ديار العرب يؤكد ثانية: (وأنا مبتدئ من ديار العرب بذِكْر مكة) ["صورة الأرض" ص28].
¥