ولو مُيِّز اليهود عن النصارى في المعاملة و الحقوق والواجبات لسجلت كتب التاريخ ذلك، لكنهم كانوا متساوين دائماً في القانون الإسلامي.
وقد ظل هذا التساوي سائداً بين اليهود والنصارى في الأندلس، منذ فتحها وحتى زمن سقوطها، حيث يقول الفقيه المالكي المعروف محمد بن القاسم: "اليهود والنصارى عند مالك سواء". (22).
وفي اعتقادي أن أعظم مكافأة كان اليهود يرجونها من وراء خدماتهم، هو تخليصهم من ظلم واستعبادهم القوط، وقد تحقق لهم أكثر من ذلك، حيث لم يتحرروا من الظلم والاستعباد فحسب، بل فازوا بعدل الحكم الإسلامي وتسامحه.
وقد شهد اليهود أنفسهم بذلك حيث يقول حاييم الزعفراني: "لقد عرفت اليهودية الأندلسية في مجموعها حياة أكثر رخاء، وأكثر اطمئناناً، كما لم تعرفها في مكان آخر" (23).ويقول نسيم رجوان (رئيس تحرير جريدة اليوم الإسرائيلية): "كان اليهود قد عانوا خلال قرون، الكثير من الشقاء والبؤس، حيث كان الملوك الإسبان القساة الغلاظ، بعيدين كل البعد عن الشفقة والرحمة. وعندما دخل المسلمون إسبانيا لم يكتفوا بتحرير اليهود من الاضطهاد، ولكنهم شجَّعوا بينهم نشر حضارة كانت توازي بخصبها وعمقها أشهر الحضارات في مختلف العصور" (24).
ـ سابعاً: هناك إشارات إلى حدوث تعاون يهودي مع المسلمين في أثناء جهادهم في مناطق الشمال الأندلسي بعد مدة طويلة من فتح الأندلس، ومن ذلك تعاون يهود برشلونة مع المسلمين عندما غزوها سنة (235 هـ = 850م)، وقد عاقبهم الإسبان على ذلك بمصادرة أراضيهم (25).
كما جاء في سيرة القديس سانت ثيودارد ( Saint theodard)، رئيس أساقفة أربونة، الذي عاش حوالي سنة (266 هـ = 880م)، أنه لما دخل المسلمون لأول مرة إلى لانجدوك، انحاز اليهود إليهم، وفتحوا لهم أبواب مدينة طولوشة ( Toulouse)، ويضيف كاتب السيرة أن شارمان عاقبهم على خيانتهم، فأمر أن يؤتى كل سنة بمناسبة أعياد اليهود بيهودي، ويصفع أمام الملأ على باب الكاتدرائية (26).
إن حدوث هذا التعاون بعد مضي نحو قرن ونصف على الفتح الإسلامي للأندلس مع عدم ورود إشارة إلى وجود اتفاق مسبق عليه بين المسلمين واليهود، يؤكد إمكانية حدوث التعاون اليهودي مع فاتحي الأندلس الأوائل دون اتفاق مسبق بينهما.
وأعتقد أن الأسباب التي دفعت اليهود للتعاون مع المسلمين بعد مضي مدة كبيرة على الفتح تتشابه مع تلك التي جعلتهم يتعاونون مع الفاتحين الأوائل (27).
- ثامناً: إن فكرة فتح الأندلس، فكرة إسلامية بحتة غير مرتبطة بتشجيع أو وعود من اليهود أو غيرهم، إذ رُوي أن محاولات لفتحها جرت في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه. حيث يقول البكري: "وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كتب إلى من انتدب إلى غزو الأندلس: أما بعد فإن القسطنطينية إنما تفتح من قِبَلِ الأندلس، وإنكم إن استفتحتموها كنتم شركاء من يفتحها في الأجر، والسلام" (28)، ويقول ابن عذاري: "أما دخول المسلمين لها فذكر فيه أربعة أقوال: أحدها أن الأندلس أول من دخلها عبد الله بن نافع بن عبد القيس وعبد الله بن الحصين الفهريّان من جهة البحر في زمن عثمان رضي الله عنه ... ". (29)
كما شهدت الشواطئ الشرقية للأندلس نشاطاً للسفن الحربية الإسلامية، وتمكنت من الوصول إلى جزيرتي ميورقة ( Mayorca) ومنورقة ( Manorca) سنة (89 هـ = 707م)، وذلك في الحملة التي جهزها موسى بن نصير، وقادها ولده عبد الله (30).
- تاسعاً: يفهم من الروايات التي تحدثت عن عمليات الفتح، أن وجود اليهود في المناطق والمدن الأندلسية كان مفاجئاً بالنسبة للمسلمين، وغير معلوم لهم مسبقاً، حيث إن جميع الروايات استخدمت الفعل "ألفى" الذي يدل كثيراً على المصادفة ووجود شيء غير متوقع (31)، فصاحب كتاب أخبار مجموعة في فتح الأندلس يقول عن فتح إلبيرة: "فألفوا بها يومئذ يهوداً" (32)، وابن الخطيب يقول عن فتح غرناطة: "وألفوا بها يهوداً" (33)، وابن عذاري يقول عن فتح طليطلة: "وألفى طارق طليطلة خالية ليس فيها إلا اليهود (34) وذلك يؤكد على عدم وجود اتفاق مسبق بين المسلمين واليهود.
¥