الدليل الثاني: أن قراءة القرآن بالألحان أمر محدَث؛ وذلك لأن كيفية قراءة القرآن نقلت إلينا نقلاً متواترًا، وليس فيها شيء مما يشبه التلحين، ولا أساليب إنشاد الأشعار، ولو كان مشروعاً لتناقلته الأمة، جيلاً بعد جيل -كما تناقلت المد والقصر، والإمالة والفتح، ونحوها- حتى يصل إلينا متواتراً، فلما لم ينقل مع توفر الدواعي على النقل، وكثرة الحريصين على نقل كل صغيرة وكبيرة في كيفية قراءته، دل ذلك على أن التلحين ما كان معروفاً لديهم، ولا معمولاً به فيما بينهم، فوجب ألا يعمل به، ولا يعرج عليه؛ لأنه بدعة ([17] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=20#_ftn17)).
واعترض القائلون بالجواز على هذا الدليل بقولهم: هب أن هذه الكيفية متفق عليها متواترة، لكن لا يلزم من ذلك منع كيفية أخرى، بل عندنا ما يدل على جواز قراءة القرآن بالألحان ([18] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=20#_ftn18)).
قلت: وهو ما سيأتي في حجة القول بالجواز.
الدليل الثالث: أن قراءة القرآن بالألحان تؤدي إلى أمور ممنوعة فتكون ممنوعةً، وتلك الأمور هي ما يلي:
أولا- أنها تؤدي إلى الزيادة والنقصان في القرآن، لأن التلحين لا يخلو من التمطيط، والتقصير، والأول يقتضي الزيادة في الحروف، والثاني يقتضي النقصان.
ثانيا- تُشبهه بالغناء الذي هو لهو ولعب وهزْل، وقد نزه الله I القرآن الكريم من ذلك كله، فقال جل من قائل: چ ژ ڑ ڑ ک ک ک چ ([19] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=20#_ftn19)).
ثالثا: تؤدي إلى إبهام معانيه على سامعيه، حتى إنه ليُسْمَعُ المُلْحِنُ يقرأ القرآن، فلا ُيدْرَى ما يقول، إلا بعد قراءته آية أو آيتين ([20] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=20#_ftn20)).
ولا شك أن هذه الأمور ممنوعة، فتكون قراءة القرآن بالألحان ممنوعةً كذلك.
حجة القول بالجواز:
واحتج القائلون بالجواز بالأدلة التالية:
الدليل الأول: عن أبى موسى الأشعري ([21] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=20#_ftn21))t قال: «استمع رسول الله r قراءتي من الليل، فلما أصبحت، قال: يا أبا موسى استمعت قراءتك الليلة، لقد أوتيت مزمارا ([22] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=20#_ftn22)) من مزامير آل داود. قلت: يا رسول الله لو علمت مكانك لحبرت لك تحبيراً» ([23] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=20#_ftn23)). قال القاضي ابن العربي: ((يريد لجعلته لك أنواعاً حساناً، وهو التلحين، مأخوذ من الثوب المحبّر، وهو المخطّط بالألوان)) ([24] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=20#_ftn24)).
واعتُرض عليه بأن هذا الحديث لا يدل على جواز القراءة بالألحان؛ إذ ليس للألحان فيه ذكر، والتحبير هو التحسين، ولا يلزم منه تلحين، ولا ترجيع ([25] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=20#_ftn25)).
الدليل الثاني: ما ثبت عن عبد الله بن مُغَفَّل ([26] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=20#_ftn26)) t: قال: «رأيت النبي r وهو على ناقة له، يقرأ سورة الفتح، أو من سورة الفتح، قال: فرجّع فيها …» ([27] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=20#_ftn27)).
واعتُرض عليه بأن ترجيعه r لم يكن ترجيع تلحين، فإنه r ما كان يعرف الشعر، ولا تلحينه، وغاية ما يُحمَل عليه ترجيعُه أمران:
أحدهما: أن ذلك حدث من تحريك الناقة إياه، فكان ينضغط صوته عند حركتها فينقطع، ثم يصله من حيث انقطع.
والآخر: أنه r أشبع المد في موضعه فحدث ذلك.
وعلى كلا الاحتمالين فلا حجة فيه ([28] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=20#_ftn28)).
الدليل الثالث: أن القلوب تخشع بالصوت الحسن، كما تخضع للوجه الحسن، وما تتأثر به القلوب في التقوى فهو أعظم في الأجر وأقرب إلى لين القلوب وذهاب القسوة منها.
واعترض عليه أبو العباس القرطبي -رحمه الله- بقوله: «لا نسلم أن كل ما استخرج خشوعاً ورقةً وبكاءً يكون مندوباً إليه ولا مباحًا، فإن ذلك ينتقض بالأوتار وبعض المزامير، والندب في النياحة، فإنها تستخرج كل ذلك وهي محرمة.
¥