وقد تعقب الزركشي ابن الصلاح في قوله:" وخوارم المروءة "فقال:" فيه أمور أحدها: ذكر الخطيب أن المروءة في الرواية لا يشترطها أحد غير الشافعي، وهو يقدح في نقل المصنف الاتفاق عليه" (39)، وسواء صحت هذه النسبة إلى الشافعي أم لم تصح، وسواء وافق غير الشافعي على اعتبارها أو سبقه إلى ذلك، فدعوى الإجماع غير مسلمة، بل لا يبعد أن يكون ثمة إجماع قديم على عدم اعتبارها بناء على قبول رواية المبتدع الصادق في روايته، إلا ما يروى عن شعبة بن الحجاج من التشدد في هذا الباب، قال البلقيني في دفع اعتراض الزركشي:" سيأتي عن شعبة أنه ترك حديث شخص لأنه رآه يركض على برذون، وهذا يقتضي أن مذهب شعبة التشديد باعتبار المروءة" (40).
على أن كلام ابن الصلاح ليس صريحا في نقل الاتفاق على اعتبار المروءة، وهو صريح في نقل الاتفاق على اشتراط العدالة والضبط وهذا لا إشكال فيه، كما لو قيل: اتفق العلماء على اشتراط الاتصال، ويثبت الاتصال بالسماع أو ثبوت اللقاء، لم يكن ذلك نقلا للاتفاق على اشتراط العلم بالسماع أو ثبوت اللقاء.
وأما الشافعي فقد نص على اعتبار المروءة في الشهادة، وليس له نص في اعتبارها في الرواية وليس في كلامه في الأحاديث والرجال ما يدل عليها، وإنما نقلوا كلامه الوارد في الشهادة وحملوا على العدالة في الرواية، وكذلك الإمام مالك إنما نقل عنه أيضا اعتبارها في الرواية بناء على اعتبارها في الشهادة (41)، ويمكن أن يستدل لاعتباره المروءة بقوله المشهور:" لا يؤخذ العلم عن أربعة: لا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا سفيه معلن بالسفه وإن كان أروى الناس، ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا تتهمه أن يكذب على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث" (42). فترك السفيه إن حمل على الفاسق -وهو الظاهر- فلا إشكال فيه (43)، وإن حمل على من اختلت مروءته فهذا يبقى مذهبا لمالك رحمه الله تعالى كما هو مذهبه في المبتدع الداعية وليس ذلك بإجماع.
وقد تعرض القاضي أبو يعلى لشرائط العدالة ولم يذكر من ضمنها خوارم المروءة، وناقش بعض مسائلها وخرجها على قول الإمام أحمد كما هي عادته، ولو كان يرى ما ذهب إليه الباقلاني لذكره ولو كان للإمام أحمد فيها نص لنقله (44). نعم قد نقل عنه قوله:" لا يعجبني أن يكتب الحديث عن معين يعني يبيع هذه العينة "، وقوله:"لا نكتب عن هؤلاء الذين يأخذون الدراهم على الحديث ويحدثون ولا كرامة "، ثم قال:" وهذا على طريق الورع لأن بيع العينة، وأخذ الأجرة على رواية الحديث مما يسوغ فيه الاجتهاد، وما يسوغ فيه الاجتهاد لم يفسق فاعله" (45).
الفقرة الثالثة: لا تقاس الرواية على الشهادة
ومن حجج الأصوليين في هذه المسألة تبعا للباقلاني قياس الرواية على الشهادة (46)، وهذا هو ما صنعه المصنفون في أصول الفقه، فقد نقلوا ما بحثه الفقهاء في باب الشهادة من كتب الفقه إلى باب الرواية من كتب الأصول. لذلك علق السيوطي على قول النووي في التقريب:" سليما من أسباب الفسق وخوارم المروءة" بقوله:" على ما حرر في الشهادات من كتب الفقه" (47).
ويجاب عن هذا القياس بأنه قياس لأصل على أصل وذلك لا يجوز، وهو أيضا قياس مع الفارق، إذ حقيقتهما مختلفة لاختصاص الشهادة بأمر معين يعني أشخاصا معينين وعموم الرواية لجميع الخلق في جميع الأعصار والأمصار (48).
وكذلك أحكامهما مختلفة، وقد ذكر الشافعي في الرسالة وغيرها جملة من الفروق في الأحكام هذا تلخيصها:
1 - أن العدل يكون جائز الشهادة في أمور مردُودُها في أمور سواها، كالشهادة التي يجر بها لنفسه أو ولده أو والده أو يدفع بها، بخلاف المحدث فيقبل حديثه جرَّ به أو دفع (49).
2 - قال: أقبل في الحديث الرجل الواحد والمرأة ولا أقبل واحداً منهما في الشهادة.
3 - وأقبل في الحديث حدثني فلان عن فلان إذا لم يكن مدلسا، ولا أقبل في الشهادة إلا سمعت ورأيت أو أشهدني.
4 - وتختلف الأحاديث فآخذ ببعضها استدلالا بكتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، وهذا لا يؤخذ به في الشهادات هكذا، ولا يوجد فيها بحال - يعني الترجيح -.
¥