ثانياً: الشيخ المحدث الألباني _ رحمه الله _ لم يستخدم هذا المصطلح وإنما ذكره في مواضع قليلة ونادرة جداً تارة بلفظ (إسناده حسن لغيره) وتارة بلفظ (وإسناده حسن بما قبله أو بما تقدم) أي من طرق، وإنما يستخدم مصطلح (حسن لغيره) أي متن الحديث حسن بمجموع الطرق، وإنما ينقل بعض المحققين كلام الشيخ المحدث الألباني بمصطلح (إسناده حسن لغيره) وهو غير دقيق ويظهر هذا بالمقارنة بين نقلهم لحكم الشيخ وبين الواقع الموجود في كتبه.
ثالثاً: استخدم هذا المصطلح غير الأرناؤوط الدكتور محمد مصطفى العظمي في تحقيقاته كتعليقه على صحيح ابن خزيمة.
رابعاً: ليعلم أن الحديث الذي يتقوى ويرتقي لدرجة الحسن هو الحديث الذي روي من طريق فيه ضعف يسير كسوء حفظ الراوي أو مختلط لم يتميز مرويه أو مستور أو نحوهم.
إذا تقرر ذلك فإن هذا الإسناد الضعيف ضعفاً يسيراً حكم عليه بالضعف لظن عدم ثبوته عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بسبب ضعف الراوي فإذا روي الحديث من وجه آخر تقوى الحديث وزال ظن عدم ثبوته وتقوى الإسنادُ _ في هذا الحديث خاصة _ والمتنُ؛ لأن الحكم على الأحاديث إنما هو لغلبة الظن إما ثبوتاً أو عدماً فالثقة يغلب على الظن ثبوت ما رواه والضعيف يغلب على الظن ضعف ما رواه فربما يخطيء الثقة وربما يصدق الضعيف، وهذا الظن يزيد في الجانبين أحياناً فيصل إلى مرتبة القطع بالضعف حينما يرويه كذاب أو يقترن به ما يفيد الجزم ببطلانه، والقطع بالصحة حينما يرويه إمام حافظ متقن أو يقترن به ما يفيد الجزم بصحته، وعليه فمن كان في المرتبة الوسطى من الضعفاء والثقات فاحتمال صحة أو ضعف ما رووه وارد فيتقوى هذا الاحتمال بمجيئه من طرق أخرى، ومجيء الحديث من طريق آخر يدل على أن للحديث أصلاً وأنه محفوظ فيزول ظن الخطأ فيه.
ولذلك نجد الأئمة يحكمون على الراوي عن طريق مروياته لا سيما المقل منهم فنجدهم يحكمون عليه بالكذب لروايته ما يقطع بكذبه ويحكمون عليه بالضعف لمخالفته الرواة أو إنفراده بما لايتابع عليه مع عدم شهرته بالرواية ونحو ذلك، فكما أن الراوي الضعيف يكون سببا لضعف الحديث فكذا المتن المنكر يكون سببا لضعف الراوي.
فالمقصود انه كما يتقوى المتن بمجيئة من عدة طرق فكذا يتقوى الإسناد بمجيئة من طريق آخر لكونه يدل على حفظ راويه ومتابعة غيره له وحصول الظن بمروياته.
فإن قيل فلم لا تتقوى رواية الكذاب والمتهم والمتروك لغلبة الظن بصدقه فيما رواه؟
قيل: رواية الكذاب والمتروك في حكم العدم للقطع ببطلان ما رواه وعليه فإن كان الطريق الآخر قائماً بنفسه وإلا فرواية الكذاب لا تفيده بل ربما تضعفه.
وهذه بعض النقول التي تؤيد ما سبق:
- يقول ابن الصلاح رحمه الله: (ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه بل ذلك يتفاوت، فمنه صنف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه، ولم يختل فيه ضبطه، وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر، ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب أو كون الحديث شاذا) مقدمة ابن الصلاح مع التقييد (ص 36 - 37)
- ويقول البقاعي في تقوية الحديث الحسن ليصبح صحيحا: (فإذا انضم بعضها _ أي الطرق _ إلى بعض صارت حسنة للغير فترتقي بها تلك الطريق الحسنة لذاتها ولا يضر كون أحدهما لذاته والآخر لغيره وتكون هذه أقل مراتب الصحة) النكت الوفية (2/ 518)
ولذلك نجدهم يقوون المرسل بالمسند وأنكر بعض المتاكلمين التقوية به بحجة أن المسند إن كان صحيا فهو الحجة دون المرسل وإن كان ضعيفا فلا يتقوى به والذي يهمنا من هذا تقويته بالمسند الصحيح ما الفائدة منه؟
قال ابن الصلاح: (فجوابه: أنه بالمسند تتبين صحة الإسناد الذي فيه الإرسال حتى يحكم له مع إرساله بأنه إسناد صحيح تقوم به الحجة على ما مهدنا سبيله في النوع الثاني. وإنما ينكر هذا من لا مذاق له في هذا الشأن) مقدمة ابن الصلاح مع التقييد (ص 58)
- وقال العلائي في تقوية المرسل بالمرسل: (إنه بانضمام أحدهما إلى الآخر يقوي الظن أن له أصلا وإن كان كل منهما لا يفيد ذلك لمجرده وهذا كما قيل في الحديث الضعيف الذي ضعفه من جهة قلة حفظ رواية وكثرة بالكذب إذا روي مثله بسند آخر نظير هذا السند في الرواة فإنه يرتقي بمجموعهما إلى درجة الحسن لأنه يزول عنه حينئذ ما يخاف من سوء حفظ الرواة ويعتضد كل منهما بالآخر) جامع التحصيل (ص 41)
- ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تقوية رواية المجهول ضمن تعليقه على تقسيم الترمذي الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف: (إذا رواه المجهول خيف أن يكون كاذبا أو سىء الحفظ فإذا وافقه آخر لم يأخذ عنه عرف أنه لم يتعمد كذبه وإتفاق الإثنين على لفظ واحد طويل قد يكون ممتنعا وقد يكون بعيدا ولما كان تجويز إتفاقهما فى ذلك ممكنا نزل عن درجة الصحيح) مجموع الفتاوى (18/ 23)
- ويقول البقاعي: (إنا ما رددنا المستور لضعفه بل لاحتمال ضعفه وعدم تحقق صفة الضبط فيه ... فإذا اعتضد بمجيئة من طريق أخرى ولو كان راويها في درجته غلب على الظن أنه حفظ والعبرة في هذا العلم بالظن) النكت الوفية (2/ 497)
فهذه النصوص والنقول تدل على أن الإسناد يتقوى كما يتقوى المتن فيسوغ الحكم عليه في هذا الاموطن فقط أنه حسن لغيره من هذه الجهة لكن لما كان المقصود هو تصحيح المتن وأنه لا يقوي الراوي مطلقاً بل يقوي روايته هنا فقط كان النص على الحديث أفضل فيقولون: (حديث حسن لغيره) وهو بهذا يتضمن السند تبعاً.
والله أعلم
¥