و قال الحافظ ابن كثير: ((لا يلزم من ورود الحديث من وجوه متعددة أن يكون حسنا؛ لأن الضعف يتفاوت: فمنه ما لا يزول بالمتابعات، و منه ضعف يزول بالمتابعة، كما اذا كان راويه سيئ الحفظ أو روى الحديث مرسلا فان المتابعة تنفع حينئذ فيرفع الحديث عن حضيض الضعف الى أوج الحسن أو الصحة)).
من هذا يتبين لنا أن الأحاديث الشديدة الضعف اذا كثرت و تعددت تبقى ضعيفة و لا ترتقي الى درجة القبول.
و قد ذكر السيوطي عن الحافظ ابن حجر أن شديد الضعف بكثرة الطرق ربما يرتقي بمجموع طرقه عن كونه منكرا أو لا أصل له الى درجة المستور السيء الحفظ.
و قد مشى الحافظ ابن حجر رحمه الله على هذه القاعدة في بعض تحقيقاته لبعض الأحاديث كما صنع في قصة الغرانيق حيث قال: (و كلها سوى طريق سعيد بن جبير اما ضعيف و اما منقطع و لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا)).
و قد أصل السيوطي لها فقال في ألفيته:
ضعفا لسوء الحفظ أو ارسال أو تدليس أو جهالة اذا رأوا
مجيئه من جهة أخرى و ما كان لفسق أو يرى متهما
يرقى عن الانكار بالتعدد بل ربما يصير كالذي بدي
و قد تعقب العلامة أحمد شاكر هذا بقوله: (و أما اذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب ثم جاء من طرق اخرى من هذا النوع فانه لا يرقى الى الحسن بل يزداد ضعفا الى ضعف، اذ أن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم بحديث لا يرويه غيرهم يرجح عند الباحث المحقق التهمة و يؤيد ضعف رواياتهم، و بذلك يتبين خطأ المؤلف و خطؤه في كثير من كتبه في الحكم على أحاديث ضعاف بالترقي الى الحسن مع هذه العلة القوية).
و هذا هو الحق الذي لا مرية فيه، فان الضعفاء قد يسرق بعضهم من بعض و يشتهرعندهم فقط، و لا نجده في روايات الثقات الأثبات مما لا يزيد الضعيف الا ضعفا على ضعف.
و قال ابن جماعة: (و الضعف لكذب راويه و فسقه فلا ينجبر بتعدد طرقه).
و قال الجرجاني: (و أما الضعيف لكذب راويه و فسقه لا ينجبر بتعدد طرقه كما في حديث: ((طلب العلم فريضة)) قال البيهقي: هذا حديث مشهور بين الناس و اسناده ضعيف و قد روي من أوجه كثيرة كلها ضعيفة).
أما تلقي العلماء لحديث بالقبول فهو من الأمور التي تزول به العلة و تخرج الحديث من حيز الرد الى العمل بمقتضاه، بل ذهب بعض العلماء الى أن له حكم الصحة؛ قال الحافظ ابن حجر: ((و جزم القاضي أبو نصر عبد الوهاب المالكي في كتاب الملخص بالصحة فيما اذا تلقوه بالقبول)).
و قال ابن عبد البر في الاستذكار -لما حكى عن الترمذي أن البخاري صحح حديث البحر: ((هو الطهور ماؤه)) -: و أهل الحديث لا يصححون مثل اسناده لكن الحديث عندي صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول).
و في التمهيد (روى جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم: الدينار أربع و عشرون قيراطا).
قال ((و في قبول جماعة من العلماء و اجماع الناس على معناه غنى عن اسناده))
و قال الزركشي: ((ان الحديث الضعيف اذا تلقته الأمة بالقبول عمل به على الصحيح حتى أنه ينزل منزلة المتواتر في أنه ينسخ المقطوع))
و عند الحنفية يعدون الضعيف اذا تلقاه العلماء بالقبول في حيز المتواتر كما نص عليه الجصاص فقد قال عند الكلام على حديث: ((طلاق الأمة تطليقتان و عدتها حيضتان)): ((و قد تقدم سنده و قد استعملت الأمة هذين الحديثين في نقصان العدة و ان كان وروده من طريق الآحاد فصار في حيز المتواتر لأن ما تلقاه الناس بالقبول من أخبار الآحاد فهو عندنا في معنى المتواتر لما بيناه في مواقع)).
و الذي يبدو لي أن الشافعي رحمه الله تعالى هو أول من أشار الى تقوية الضعيف بتلقي العلماء فقد قال: ((فاستدللنا بما و صفت من نقل عامة أهل المغازي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن ((لا وصية لوارث)) على أن المواريث ناسخة للوصية للوالدين و الزوجة مع الخبر المنقطع و اجماع العامة على القول به)).
ثم ان الامام الشافعي قد أشار الى ذلك عند كلامه عن شروط قبول المرسل فقال: ((و كذلك ان وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عنهم عن النبي صلى الله عليه و سلم)).
¥