تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

انتقل إلى النَّبك قاضياً، وكان من توفيق الله له أن هيّأ له بداية ناجحة في عمله الجديد في القضاء، فبدأ عمله بقضية كبيرة، بلغت أوراقها آلافاً، وكان يأتيها كبار محاميّ دمشق، فتهيَّبها ولبث ينظر فيها أياماً وقرأ مئات الأوراق، ثم ألهمه الله أن ينظرها من أولها، فوجد الدعوى التي قامت عليها القضية كلها غير صحيحة، وأعاد النظر فيها وتأكد من ذلك، فذهب صباح اليوم التالي إلى المحكمة وكِبار المحامين يتربَّصون به ليختبروه كما يفعلون مع كل قاضٍ جديد، وإذا به يفاجئهم بختام المحاكمة، وذلك وسط اعتراضات المحامين وتوقعهم أن ينالوا من القاضي الجديد الذي لا خبرة له، ثم أصدر قراره بردِّ الدعوى. وإذا بهم يدركون المتاهة التي كانوا يسيرون فيها ويهنئونه على قراره، وصار الأمر حديث الأوساط القضائيَّة. وبقي في النَّبك قرابة سنة، أمضى فيها أياماً ممتعة نافعة وحمل معه منها ذكريات جميلة، وكانت له مع أهل النَّبك مجالس نافعة، يجمع الموظفين على قراءة كتاب نافع بدل ما كانوا فيه من إضاعة الوقت في اللهو والكلام الفارغ.

ثم انتقل قاضياً في دوما في ضواحي دمشق عام 1942م، خلفاً للشيخ أنيس الملوحي الذي كان قد درّبه على القضاء. وصار من سكان دمشق ينتقل إلى دوما صباحاً ويعود منها ظهراً. وفي محكمة دوما أجرى إصلاحات ووضع أنظمة لتسهيل المعاملات وأصلح بين الناس، وحارب الفساد وضرب على يد المفسدين.

وفي هذه السنة بدأ حديثه في إذاعة دمشق الذي استمر عشرين سنة، تخللها انقطاع في سنوات الوحدة تم عاد ثانية بعد الانفصال.

وفي العام التالي انتدب مؤقتاً للعمل في محكمة دمشق أثناء سفر القاضي الممتاز للحج، ثم عُيّن قاضياً رسمياً فيها عام 1943م، وصار القاضي الأول (القاضي الممتاز) بعد وفاة الشيخ عزيز الخاني ومقتل الشيخ عادل العلواني ونقل الشيخ صبحي الصباغ مستشاراً في محكمة النقض، فعمل على نقل الشيخ مرشد عابدين الذي كان قد خلفه في محكمة النَّبك ومحكمة دوما، فجاء معه إلى محكمة دمشق وتعاونا في العمل فيها. أعاد رحمه الله ترتيب المحكمة وتنظيم معاملاتها وإصلاح موظفيها، والتيسير على الناس، ومنع الفساد والكسب غير المشروع. وجعل لكل معاملة مدة لإنجازها، وأعلن للناس أن يراجعه كل من تتأخر معاملته عن الأجل المحدَّد. فصلح أمر المحكمة وسهلت معاملات الناس وخاصة عقد الزواج. وكان له أثر كبير ليس فقط في إحقاق الحق وإنصاف المظلوم، بل في الإصلاح بين الناس أيضاً. كان يأتيه الزوجان وقد اندلعت بينهما الحرب وأذكى نارها أفراد العائلتين، فيطرد الجميع ما عدا الزوجين ويغلق عليهما باب الغرفة ساعة فيصطلحا ويخرجا من المحكمة وقد أسقطا الدعوى. وكانت له مواقف جريئة في الصدع بالحقِّ والثبات عليه. وبقي قاضي دمشق عشر سنوات. وكان يمضي يومه في المحكمة، ويتغدى فيها لبعد داره عنها، ويبقى أحياناً إلى المغرب فيصلِّي ويذهب إلى بيته.

وكلفته الكلية الشرعية بدمشق عام 1944م بتدريس الثقافة الإسلامية ولم تكن هذه المادة معروفة من قبل.

في السنة التالية 1945م زار مصر بعد غياب ستة عشر عاماً، وجاءته هذه السفرة على غير ميعاد؛ كان جالساً مع بعض إخوانه وإذا بمجموعة شبان يتكلمون عن عزمهم السفر إلى مصر مع الشيخ محمد الحامد، ففاجأهم علي الطنطاوي بقوله: هل تأخذوني معكم؟ فرحبوا به أجمل ترحيب. ورافقهم في سفرتهم وبقي في مصر شهرين. ذهب أولاً إلى خاله محب الدين الخطيب، ثم إلى دار الرسالة مهوى القلب فلقي الأستاذ الزيات الأخ الكبير الذي كتب عنده كثيراً ولم يلتق به من قبل، وزار الشيخ حسن البنا الذي أقام حفلاً في دار الإخوان احتفاء به، وفي هذه الحفلة عرف علي الطنطاوي لأول مرة الشيخ الصواف الذي صار فيما بعد من أقرب وأحب الناس إليه.

وفي نهاية هذه السنة كُلِّف رحمه الله بوضع قانون الأحوال الشخصية، وأُوفد إلى مصر مع نهاد القاسم آخر عام 1946م، وسافر مع عائلته وبقي هناك مدة تزيد عن السنة، وكان له ولرفيقه مكتبان في إدارة التشريع في وزارة العدل. كانا يذهبان لهذه الإدارة كل يوم، يعملان مع القضاة والفقهاء والعلماء في مصر في مناقشات وبحوث وجدالٍ طويلٍ في مسائل الأحوال الشخصية.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير