وقال ابن هندو الكاتب: إذا نُظِر في النظم والنثر على استيعاب أحوالهما وشرائطهما، والاطلاع على هواديهما وتواليهما كان أن المنظوم فيه نثرٌ من وجه، والمنثور فيه نظمٌ من وجه، ولولا أنهما يستهمان هذا النعت لما ائتلفا ولا اختلفا.
وقال ابن كعب الأنصاري: من شرف النثر أن النبي ? لم ينطق إلا به آمراً وناهياً، ومستخبراً ومخبراً، وهادياً وواعظاً، وغاضباً وراضياً، وما سُلِبَ النظم إلا لهبوطه عن درجة النثر، ولا نزه عنه إلا لما فيه من النقص، ولو تساويا لنطق بهما، وَلمَاَّ اختلفا خص بأشرفهما الذي هو أجول في جميع المواضع، وأجلب لكل ما يطلب من المنافع.
فهذا قليل من كثير مما يكون تبصرةً لباغي هذا الشأن، ولمن يتوخى حديثه عند كل إنسان.
وأما ما يفضل به النظم على النثر فأشياء سمعناها من هؤلاء العلماء الذين كانت سماء علمهم دروراً، وبحر أدبهم متلاطماً، وروض فضلهم مزدهراً، وشمس حكمتهم طالعة، ونار بلاغتهم مشتعلة، وأنا آتي على ما يحضرني من ذلك، منسوباً إليهم، ومحسوباً لهم، ليكون حقهم به مَقْضِيَّاً، وذكرهم على مر الزمان طرياً.
قال السلامي: من فضائل النظم أن صار لنا صناعةً برأسها، وتكلم الناس في قوافيها، وتوسعوا في تصاريفها وأعاريضها، وتصرفوا في بحورها، واطلعوا على عجائب ما استخزن فيها من آثار الطبيعة الشريفة، وشواهد القدرة الصادقة؛ وما هكذا النثر، فإنه قصر عن هذه الذروة الشامخة، والقلة العالية؛ فصار بذلك بذلةً لكافة الناطقين من الخاصة والعامة والنساء والصبيان.
وقال أيضاً: من فضائل النظم أنه لا يُغَنَّى ولا يُحْدَى إلا بجيده ولا يؤهل للحن الطنطنة، ولا يُحَلَّى بالإيقاع الصحيح غيره، لأن الطنطنات والنقرات، والحركات والسكنات، لا تتناسب إلا بعد اشتمال الوزن والنظم عليها، ولو كان فعل هذا بالنثر كان منقوصاً، كما لو لم يفعل هذا بالنظم لكان محسوساً؛ والغناء معروف الشرف، عجيب الأثر، عزيز القدر، ظاهر النفع في معاينة الروح، ومناغاة العقل، وتنبيه النفس، واجتلاب الطرب، وتفريج الكرب؛ وإثارة الهزة، وإعادة العزة، وإذكار العهد، وإظهار النجدة، واكتساب السلوة؛ وما لا يحصى عدده.
ويقال: ما أحسن هذه الرسالة لو كان فيها بيتٌ من الشعر، ولا يقال: ما أحسن هذا الشعر لو كان فيه شيءٌ من النثر، لأن صورة المنظوم محفوظة، وصورة المنثور ضائعة.
وقال ابن نباتة: من فضل النظم أن الشواهد لا توجد إلا فيه، والحجج لا تؤخذ إلا منه، أعني أن العلماء والحكماء والفقهاء والنحويين واللغويين يقولون: (قال الشاعر ... ) و (هذا كثيرٌ في الشعر ... ) و (الشعر قد أتى به .. )، فعلى هذا: الشاعر هو صاحب الحجة، والشعر هو الحجة.
وقال الخالع: للشعراء حلبة، وليس للبلغاء حلبة، وإذا تتبعت جوائز الشعراء التي وصلت إليهم من الخلفاء وولاة العهود والأمراء والولاة في مقاماتهم المؤرخة، ومجالسهم الفاخرة، وأنديتهم المشهورة، وجدتها خارجةً عن الحصر، بعيدةً من الإحصاء؛ وإذا تتبعت هذه الحال لأصحاب النثر لم نجد شيئاً من ذلك؛ والناس يقولون: ما أكمل هذا البليغ لو قرض الشعر! ولا يقولون: ما أشعر هذا الشاعر لو قدر على النثر! وهذا لِغِنَى الناظم عن الناثر، وفقر الناثر إلى الناظم؛ وقد قدم الناس أبا علي البصير على أبي العيناء، لأن أبا علي جمع بين الفضيلتين، وضرب بالسيفين في الحومتين، وفاز بالقدحين المعليين في المكانين.
وقال لنا الأنصاري: سمعت ابن ثوابة الكاتب يقول: لو تصفحنا ما صار إلى أصحاب النثر من كتاب البلاغة، والخطباء الذين ذبوا عن الدولة، وتكلموا في صنوف أحداثها وفنون ما جرى الليل والنهار به؛ مما فُتِقَ بِهِ الرَّتْق، وَرُتِقَ بِهِ الفَتْق، وأُصْلِح به الفاسد، وَلُمَّ به الشعث، وقُرِّب به البعيد، وبُعِّد به القريب، وحُقِّق به الحق، وأُبْطِل به الباطل، لكان يُوفِي على كل ما صار إلى جميع من قال الشعر ولاك القصيد، ولهج بالقريض، واستماح بالمرحمة؛ ووقف موقف المظلوم، وانصرف انصراف المحروم؛ وأين من يفتخر بالقريض، ويدل بالنظم، ويباهي بالبديهة، من وزير الخليفة، ومن صاحب السر، وممن ليس بين لسانه ولسان صاحبه واسطة، ولا بين أذنه وأذنه حجاب ?! ومتى كانت الحاجة إلى الشعراء كالحاجة إلى الوزراء ?!
ومتى قام وزير لشاعر للخدمة أو للتكرمة ?!
ومتى قعد شاعرٌ لوزير على رجاء وتأميل ?!
بل لا ترى شاعراً إلا قائماً بين يدي خليفةٍ أو وزيرٍ أو أميرٍ باسط اليد، ممدود الكف، يستعطف طالباً، ويسترحم سائلاً؛ هذا مع الذلة والهوان، والخوف من الخيبة والحرمان، وخطر الرد عليه في لفظٍ يمر، وإعرابٍ يجري، واستعارةٍ تعرض، وكنايةٍ تعترض، ثم يكون مَقْلِيَّاً مَشِينَاً بما يظن به من الهجاء الذي ربما دلاه في حومة الموت، وقد برأ الله تعالى بإحسانه القديم ومنه الجسيم صاحب البلاغة من هذا كله، وكفاه مؤونة الغدر به، والضرر فيه.
وكان ابن ثوابة إذا جال في هذه الأكناف لا يُلْحَقُ شأوه، ولا يشق غباره، ولا يطمع في جوابه، وله مناظراتٌ واسعةٌ في هذا الباب مع جماعةٍ من أهل زمانه ناقضوه وعارضوه، وكاشفوه وواجهوه؛ فثبت لهم، وانتصف منهم، وأربى عليهم، ولم يقلع عن مسالطتهم ومبالطتهم إلى أن نكصوا على أعقابهم، وراجعوا ما هو أولى بهم.
فإذا كان الأمر في هذه الحال على ما وصفنا، فللنثر فضيلته التي لا تنكر، وللنظم شرفه الذي لا يجحد ولا يستر، لأن مناقب النثر في مقابلة مناقب النظم، ومثالب النظم في مقابلة مثالب النثر؛ والذي لابد منه فيهما السلامة والدقة، وتجنب العويص، وما يحتاج إلى التأويل والتخليص.
انظر كتاب الإمتاع والمؤانسة / الليلة الخامسة والعشرين
¥