والصواب ما عليه النحاة لأنهم احتكموا إلى منطق اللغة، ونظروا إلى المضمون لا الشكل، وإلى دلالة الأسلوب والسياق، ثم إننا لو ارتضينا ما ردّده المؤلف وسألناه عن الفاعل في نحو قولنا (إنّ زيداً قام) لقال (زيداً)، ويلزمه حينئذٍ في إعرابه أن يقول: اسم إنّ منصوب، وهو فاعل للفعل قام وقع منصوباً!!، وإذا طلبنا منه أن يدلّنا على فاعل (يلعب) في نحو (رأيت طفلاً يلعب) قال: (طفلاً) ويلزمه أيضاً في إعرابه أن يقول: مفعول به للفعل رأيت، وهو فاعل ليلعب قدّم عليه، منصوب! ونسأله عن الفاعل في نحو (أكلت التفاحة) نسأله هذا لأنّه لا يسلّم بمجيء الفاعل ضميراً، فقد قال (53): "قضيّة الفاعل المستتر والضمائر المتصلة والمستترة برمتها بحاجة إلى إعادة نظر كليّة .. الفعل حدث له زمن، ويحتاج إلى فاعل حقيقي يقوم به، لا إلى فاعل وهمي نراه تارة في الأحرف، وتارة في الضمائر ... ".
ونسأله أخيراً عن الفاعل في نحو (الأولاد يلعبون) سيقول: الأولاد، ولا بأس بعد ذلك أن يكون للفعل الواحد فاعلان، فاعل قبله وآخرُ بعده!!.
هذا هو المنطق الذي يدعونا إليه المؤلف، ولا عجب في ذلك إذا عرفنا المقاصد التي يرمي إليها من وراء ما يكتب.
وتتميماً لهذه المسألة (تقدّم الفاعل) قال أيضاً (54):
"لنأخذ المثال التالي (تعمل النساء في الحقل)، فالفاعل هنا (النساء)، أمّا إذا قلنا (النساء تعمل في الحقل) فإنّ النحاة يعتبرونها غير صحيحة، وعليك أن تصححها لتصبح: النساء تعملن في الحقل .. ويصبح الفاعل عندئذٍ ظاهراً، وهو نون النسوة، وهنا نسأل: كيف تكون النون فاعلاً؟ الحرف هو الفاعل! ".
وهذا منه افتراءٌ على النحويين، إذ لم يمنع أحدٌ منهم –فيما أعلم- إفراد الضمير العائد إلى جمع المؤنث السالم، أو جمع تكسير المؤنث، وإن كان الأولى بشهادة المسموع من العرب عوده مجموعاً، وقد ساق النحاة الذين اتهمهم المؤلف شواهد تثبت مجيء هذا الضمير مفرداً (55)، من ذلك قوله الشاعر:
وإذا العذارى بالدخان تلفّعت * * * واستعجلت نصب القدور فملّت
وقوله:
ولو أنّ ما في بطنه بين نسوة * * * حَبَلْن وما كانت قواعد عُقَّرا
وأمّا اعتراضه على مجيء الحرف فاعلاً فهذا شأنه، ولعله نسي أن الأمر لا يقتصر على نون النسوة، فهناك أيضاً واو الجماعة وياء المؤنثة وألف الاثنين والتاء المتحركة ... ونسي أيضاً أنها حروف معانٍ وأنها في الحقيقة يكنى بها عن الأسماء الظاهرة ابتدعها اللسان العربي قصداً للإيجاز الذي هو جوهر البلاغة.
13 - استتار الضمير جوازاً!!
قال (56): "لنرجع إلى كلمة (جوازاً) .. أي أنّه حسب فهمي المتواضع يجوز لك أن تُظهر الضمير المستتر في الجملة السابقة (يريد: الرجل جاء إلى البيت) التي تصبح: الرجل جاء هو إلى البيت، فما رأيكم بذلك التعبير الدقيق! ".
ولا بأس ههنا بإيضاح ما توقف عنده المؤلف ولا سيما أنّ أكثر الناس يفهمون من عبارة (جوازاً) ما فهمه المؤلف، فأقول:
انقسام الضمير إلى جائز الاستتار وواجبه أوّل ما وقفت عليه عند ابن مالك (57)، وقد استغربه أبو حيان، فقال: وهذا اصطلاحٌ غريب لا نعرفه إلاّ منه (58).
والذي أراده ابن مالك بالاستتار الجائز هو جواز أن يحل محل الضمير اسم ظاهر، ففي قولنا (زيد يقوم) الفاعل مستتر جوازاً لأنّه يصحّ أن يقال: زيد يقوم أبوه.
أمّا مذهب المتقدّمين فهو أنّ الضمير المستتر لا يمكن أن يكون إلاّ متصلاً لا منفصلاً فلا يقدّر بـ (هو) أو (هي)، ولا يظهر في الكلام لا مع الغائب ولا مع المتكلّم، أمّا قولهم إن الفاعل في نحو زيدٌ ضُرِبَ: تقديره (هو) فلغاية تعليميّة، لضيق العبارة عليهم، لأنّه لم يوضع لهذا المستتر لفظ، فعُبِّر عنه بلفظ المرفوع المنفصل، دون أن يعني هذا أنّ المقدر المستتر هو ذلك المصرَّح به (59).
14 - لِمَ لا يكون الفاعل ضميراً مستتراً تقديره (هم) بدلاً من (هو) كما يزعم النحاة؟.
¥