وأسماء الأفعال في باب إعمالها عمل الفعل ليست بدعاً في العربيّة، فالمشتقات، مثلاً، وهي أسماء معربة إذا اشتدّ شبهها بالفعل عملت عمله، فترفع فاعلاً وتنصب مفعولاً، تقول: أنا قارئ كتاباً، لأنّ اسم الفاعل شابَهَ المضارع (أقرأ)، بل إننا نجد في بعض اللغات الساميّة أن صورة المضارع في نحو هذا المثال الأخير غير مستعملة، إذ حلّ محلها اسم الفاعل، وفي هذا دلالة بيّنة على أن الاسم قد يشبه الفعل، وقد يحلّ محلّه معنىً وعملاً.
فلا داعي إذن لكلّ هذا الضجيج الذي يسعى المؤلف إلى إحداثه، وإننا لا ندري أهو غاضب على النحويين أم على العربية نفسها، تلك اللغة التي تنطوي على طاقة تعبيريّة هائلة.
6 - أهل اللغة قيّدوا مشاعر المتكلّم في صيغ التعجّب:
قال (41): "فلا يحقّ لنا عند أهل اللغة أن نتعجّب إلاّ بإحدى الصيغتين: ما أفعله، وأفعِلْ به ... ما هذه الديكتاتوريّة في اللغة ... ألا يحقّ لي أن أقول: يا لَجَمال البيت، أو يا لطيف شو حلو ها البيت، ألا يحقّ لي أنْ أعبّر عن مشاعري بالأسلوب الذي يعجبني .. ".
وهذا الكلام ظاهره اعتراضٌ على أهل اللغة، لكنّه في الواقع اعتراض على الفصحى نفسها، تلك اللغة التي يرى المؤلف أنّها تفتقر في أساليبها إلى التعبير عن المشاعر وربّما تقيّدها. وهو غير صحيح، فأهل اللغة يعرفون قبل المؤلف، ولعله لا يُعرف ذلك، أنّ التعجّب إنما هو شعور داخلي تنفعل به النفس حين تستعظم أمراً نادراً أو لا نظير له، وخلصوا بعد استقراء أساليب العربيّة إلى أنّ التعجّب له أسلوبان: قياسيّ، مضبوط له قواعد محددة، لا يختلف فيها الناس، وهما صيغتا (ما أفعله) و (أَفْعِلْ به) وسماعيّ، لا ضابط له، يُتْرَك للمتكلّم ويُفهم بالقرينة، وقد اكتفى النحاة وأهل اللغة بالإشارة إلى هذا النوع الثاني، ولم يعقدوا له باباً، وما فعلوه خير، لأنّه أسلوب سماعيّ يترك للمتكلّم نفسه، وعباراته تتبدّل بتبدّل الأزمنة والأمكنة، مما يكسب اللغة حيويّة ونشاطاً فذكروا مثلاً: لله درّه، يا لك من ليل، يا لَروعة النصر، عجبا"ً، ومن هذا الباب ما خرج من الاستفهام إلى التعجب، نحو (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ([البقرة: 28]، (ما لي لا أرى الهدهد ([النمل: 20]، ومنها: سبحان الله، في سياق يدلّ على أنّ المقصود هو التعجب (42). فلا (ديكاتوريّة) في اللغة، ولا مصادرة للمشاعر، وله أن يتعجب كما يحلو له، ولكن بعيداً عن عاميّاته التي يحلم بها.
7 - فعلٌ معتلٌ، وحروف علّة .. تسمياتٌ غريبة:
قال (43): "أريد أن أسأل: لماذا سميّت الأحرف الثلاثة "الياء- الواو- الألف" أحرف علّة؟ وما هي عِلّتها؟ ولماذا يعتل الفعل أو الاسم فيها (يصبح مريضاً) ولماذا فعل (ضرب) فعلٌ صحيح، وفعل (سما) فعل معتلّ .. تلك التسميات الغريبة والعبارات العجيبة التي تُدَرَّس لطلاّبنا .. علينا أن نتخلّص منها وأن ندرك أنّها لا تنفع".
أقول: مصطلحا (الصحّة) و (الإعلال) في الحروف من صنع أهل النحو، وهذا شأن جميع المصطلحات إذ هي ألفاظ تنتقل من دلالة إلى أخرى مرتبطة بها بسبب، فإن كان لدى صاحبنا بديل فليقدمه، أمّا إن كان يرى أن حروف العربيّة على درجة واحدة من حيث خصائصها البنيويّة فهو أمرٌ مرفوض، يأباه المنقول من هذه اللغة قبل كلّ شيء، وربما يأباه أيضاً المنقول من اللغات الحيّة غير العربيّة.
لقد لاحظ علماء العربيَّة أنَّ هذه الأحرف الثلاثة لا تلزم صورة ثابتة في بنية الألفاظ، فيلحقها الحذف مرّة، والإعلال مرّة أخرى، كما في: قال، قلت، يقول، مقول، مقيل، قيل .. خلافاً لباقي الحروف، فإنها تلزم صورة ثابتة، فلا يتطرّق إليها حذف أو إعلال، فيقال مثلاً: ضربَ، ضربت، ضاربَ، يضرب، مضروب ... ، فالضاد والراء والباء ظلّت على حالها لم يمسها شيء، فقالوا: الألف والواو والياء أحرف اعتلال، أي أحرفٌ يصيبها الوهن لأنها عرضة للحذف والتغيير، تشبيهاً لها بالعليل، أي المريض، وباقي الحروف هي حروف صحاح، أي قويّة ثابتة، تشبيهاً لها بالصحيح، الذي هو السليم القويّ.
وهذه الأحرف الثلاثة ذات خصائص تعبيريّة متنوعة في بنية الكلمة، إذ يعوّل عليها كثيراً في الحركة الداخليّة لها، ولا سيما في باب الاشتقاق والتصغير والنسب والإمالة وكثير من مسائل التقاء الساكنين.
¥