وقد لاحظ علماء العربيّة أيضاً أن المعتل قد تفرده العرب بأحكام يخالف بها بابه من الصحيح، ولا سيما في أبواب الجمع والمصادر.
فإغفال طبيعة هذه الأحرف، وإهمال درسها وتتبع أحوالها أمر يأباه منطق الدرس اللغوي إن أردنا أن نفهم بنية الكلمة العربيّة.
8 - قواعد الإسناد تتحكّم بالمتكلمين:
قال (44): "وهنا أتذكّر فعلاً صحيحاً مضعّفاً هو فعل "مدّ"، فعند إسناد ذلك الفعل إلى الضمائر المختلفة لا نسمع أحداً من ناطقي اللغة العربيّة المحكية (العاميّة) من المحيط إلى الخليج يقول (مددت)، ونجدهم جميعاً يقولون (مدّيت) وإننا لا نجرؤ على اعتبارها من جوازات الإسناد، فتأمّل عجزنا وضعفنا أمام أوهام الماضي".
ولن نجادل المؤلّف ههنا في صحّة استقرائه، ولكن نقول إنّ كلامه هذا يضمر دعوة إلى تغيير قواعد الفصحى لتنسجم مع العاميّة، ولا يعنيه بعد ذلك ما سيؤول إليه الأمر من عشوائيّة اللغة نفسها واختلاط أبنيتها.
إنّ ما انتهى إليه النحاة في باب وصف الأبنية وأحوالها هو ما سمعوه من فصحاء العرب، ولو أنّه انتهى إليهم عن بعض العرب نحو مدّيت لما أغفلوه، وهم الذين حملوا إلينا ما جرى على القاعدة وما شذّ عنها.
وعِلّة امتناع العرب الفصحاء من نحو (مدَّيت) هو كراهية اختلاط البناء الواحد وعشوائيته، وهو ما سمّاه النحاة (دَفْع اللبس)، فبناء فَعَل إذا أُسند إلى المتكلم قيل فيه فَعَلْت نحو: ضَرَب ضربت، ولو قالوا في مَدّ –وهو فَعَل- مدّيت لكان فَعَّلْتُ، وهذه الصيغة مخصوصة بـ "فعّل المضعف نحو كسَّر كسّرت، فيقع الالتباس.
ولو سلّمنا بـ مدّيت كما يريد المؤلف لرضينا أيضاً أن يقال في ضَرَب: ضرّبت، وفي كَتَب، كتّبت. وأغلب الظنّ أن العامّة في قولهم (مدّيت) إنّما راعوا أصلاً لغوياً وهو أنّ التضعيف أو توالي الأمثال ممّا ينبو عنه اللسان، والعرب قديماً كانوا يفرّون إلى الإبدال والحذف والإدغام، ولو عدنا إلى النصوص الفصيحة لرأيناهم يراعون إبدال ثاني المثلين ياءً، فيقولون: تسرَّيت وتظنيت وتمطّيت، والأصل: تسرّرت وتظنّنت وتمطّطت، ومثل هذا الإبدال لا لبس فيه ولا اضطراب لأنه جاء على تفعَّل تفعّلْت، ولم يسمع عنهم أنهم أبدلوا ثاني مثلي المضاعف المجرّد ياء، وكان القياس لو أبدلوا أن يقولوا في مددت مَدَيت وفي عددت عَدَيت بإبدال ثاني المثلين ياء (45).
والظاهر أنّ العاميّة قاست مجردها على مزيد المضعّف، طلباً للخفّة ومراعاة لهذا الأصل اللغوي، أو لعلها عاملت المجرّد المضعف (مدّ) معاملة (فَعَل) المعتل: وصَّى وصيّت.
ومهما يكن من أمر هذه العاميّة فلا يمكن لنا أن نجعل مما آلت إليه في هذا الباب جوازاً من جوازات الفصحى لأن قياسها مخالفٌ لقياس الفصحى لأنّه يؤدي إلى الوقوع في اللبس واختلاط الأبنية وعشوائية استعمالها، وهو ما تحامته الفصحى.
9 - مبنيٌّ للمجهول، ونائب فاعل .. ! هراء:
سخر المؤلّف من قول النحاة إنَّ (الزجاج) في نحو (كُسِرَ الزجاج) نائب فاعل، قال (46): "تأمّل ذلك الإعراب العتيد، والذي يفيد بأنّه عندما لم نجد الفاعل (أحمد) جعلنا (الزجاج) ينوب عنه فيكسر نفسه، فهو نائب فاعل. كيف يمكن أن نقبل ذلك؟ وكيف لنا أن نقبل على مرّ أكثر من ألف عام هذا الهراء، نعم هذا الهراء؛ أن تنوب حركة آخر الكلمة عن موقع الكلمة الحقيقي في الجملة .. لقد لاحظ النحاة أنّ كلمة (الزجاج) قد جاءت مرفوعة فسمّوها نائب فاعل، لأنّها نابت عنه في حركة الرفع، ضاربين عرض الحائط بكلّ المعايير والمقاييس المنطقيّة".
وهذا الكلام برمّته مبنيٌّ على مغالطات وأوهام بل على جهل صريح، وفيه تعلّق ببعض عبارات المعربين، وهي عبارات وضعت لغرض تعليمي، ولم يكلّف الكاتب نفسه عناء الرجوع إلى ما قاله النحاة في تحديد مفهوم ما سمّي نائباً عن الفاعل.
فما زعمه أوّلاً أنّ نائب الفاعل يحلّ محلّ الفاعل في تأدية معناه= كلامٌ باطل لم يقله أحدٌ من النحاة، ولا يتصوره غفل، لقد توقف هؤلاء عند هذا التركيب فرأوا أن المفعول حلّ محل الفاعل المحذوف في باب الإسناد لا غير، فنائب الفاعل عندهم هو المسند إليه بعد فعلٍ بني للمجهول، ومحالٌ أن يتوهم عاقل أن النحاة أرادوا أنّ نائب الفاعل هو الذي قام بالفعل وإن حلّ محل الفاعل، لأنّ الفعل بني على صورةٍ تُفهم السامع أنّ الفاعل مجهول.
¥