ثمّ إن المسألة لم تكن على هذه السذاجة كما توهمها المؤلف: "جاءت مرفوعة فسمّوها نائب فاعل، لأنّها نابت عنه في حركة الرفع" ولو كان الأمر على ما توهم لما قالوا إنّ شبه الجملة وهي كما يعلم تخلو من علامة الرفع –قد تنوب عن الفاعل، في نحو قولنا: جُلِس على الأرض، وحيل دونه.
وأمّا قوله إنّ النحاة تعلّقوا بحركة الكلمة [الرفع]، وغاب عنهم الموقع الحقيقي لها في الجملة [يريد أنّ نائب الفاعل هو في الحقيقة مفعول به] = فمردود، لأنّ هذا لم يغب عن أيّ منهم، ولو نظر في كتاب سيبويه –وهو المتهم عنده- وفي مصنفات من جاؤوا بعده لوجدهم يصرحون بأنّ نائب الفاعل هو المفعول به، فسمّاه سيبويه (47) (المفعول)، وسمّاه من بعده (مفعول ما لم يُسمَّ فاعله) (48) وفي هذه التسمية ما يقطع بأنهم لم يتعلقوا بالشكل (حركة الرفع) كما ظلّ يرميهم به، بل عنوا بموقع الكلمة في الجملة، ولعلّ هؤلاء سبقوا منذ زمن أهل الدرس اللغوي المعاصر فيما سمّي عندهم بالنحو الوظيفي.
10 - اختلاف علامة الرفع في الأفعال الخمسة يثير الدهشة:
ففي باب الأفعال الخمسة تجد "الغرابة والعجب"، لأنّك حين ترى الفعل (يكتب) مرفوعاً بالضمّة، ثمّ تأتي بعد ذلك إلى (يكتبان) "وتنتظر لترى الضمّة أو الواو أو أيّة حركة تشير إلى الرفع ولكنّك تدهش عندما تجد أن علامة الرفع هي ثبوت النون ... والسؤال: ما العلاقة بين علامة الرفع وبين ثبوت النون أو غيابها" (49)
ولسنا ندري على من ينصب النقد ههنا، على النحاة الذين وصفوا أحوال اللغة، أم على اللغة نفسها التي تنوعت طرائق تعبيرها؟ لكن الذي لا شك فيه أنّ المؤلف غيّب حقيقة لغوية لا تعمى عنها الأبصار وهي أن العربيّة لغة معربة، وأنها لا تلتزم مسلكاً واحداً في التعبير عن حالة إعرابيّة معيّنة، ولا سيما حين تتغير بنية الكلمة من حيث الإفراد والتثنية والجمع، ومن حيث اختلاف العوامل، وهي سمة خُصَّت بها العربيّة من بين اللغات الحيّة.
فلا غرابة ولا عجب حين نقول: جاء المعلم، وجاء المعلمان، وجاء المعلمون، فالمسند إليه موقعه واحد، لأنّه جاء بعد فعل، وعلامة إعرابه، وهي الرفع، تغيّرت بتغيّر بنية الكلمة إفراداً وتثنية وجمعاً، وهذه العلامة ليست ضمّة في كل الأحوال، بل هي الألف إذا دلّت الكلمة على التثنية، والواو إذا كانت جمع مذكر سالماً.
وحين نقول: أنت تكتب، وأنتما تكتبان، وأنتم تكتبون، وأنت تكتبين نلاحظ أيضاً أن موقع الفعل (المسند) لم يتغيّر وأنه لم يسبق بأيّ من أدوات الجزم والنصب التي قد تباشره، فهو مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة أو ما ينوب عنها ويقوم مقامها، وهي بقاء النون مع غير المفرد المذكّر، لأنّ هذه اللواحق (الضمّة والنون) لا تثبت إلاّ في حالة الرفع، أي حين يكون المضارع مجرداً من العوامل. أمّا إذا قلنا: لم يكتب –لم يكتبا- لم يكتبوا- لم تكتبي فإننا نلاحظ اختفاء صورتي الضمة والنون، فالنون إذن كما يدلّ عليه الاستقراء علامة إعراب مساوية للضمّة، وجودها يعني أن المضارع مرفوع، واختفاء صورتها يعني أنه منصوب أو مجزوم.
فهي إذاً طبيعة العربية وطرائق تعبيرها، وما صنعه النحاة لا يعدو أن يكون وصفاً لهذه الظاهرة، ولم يروا ما رآه المؤلف من غرابة أو عجب ولم يندهشوا كما اندهش.
11 - نصب المضارع بـ أن مضمرة .. تعابير وتأويلات غريبة!
قَبِلَ الكاتب ولو "بشكل مبدئي" فكرة نصب المضارع بعد الأدوات الناصبة: أنْ –لن- كي- إذن، أمّا ما زعمه النحاة أنّه ينصب بـ أن مضمرة فهو ضرب من "التعابير والتأويلات الغريبة" كالذي وقع في قوله تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ([النحل: 44] وقوله (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ([الحجرات: 9]، "ثمّ نتابع لنجد تخريجات غريبة كواو المعيّة .. ما هذه التعابير وما هذه المعاني الغريبة التي نتخيلّها لإرضاء النحاة .. لماذا لا نعترف أنّ المضارع في التنزيل الحكيم قد يكون منصوباً بالرغم من تجرده عن الناصب والجازم" (50).
¥