تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

لو تأمل الحسني في عبارة الرافعي لما وجد فيها ما توهمه وبنى على أساسه نقده، فقول الرافعي (هذا الاستعمال مما وضعناه نحن، وليس في اللغة) المقصود منه أنه استعمال مولد غير مسموع عن العرب، وليس فيها إضافة الاستعمال إلى مصر أو طنطا. ولو كان الوقت غير الوقت والظرف غير الظرف لكان لكلمة (نحن) في مخيلة الهادي الحسني شأن آخر؛ إذ تتسع لتشمل كل أمصار جامعة الدول العربية، وتشيع لتعم كل من تكلم بالعربية بعد عصر الاحتجاج. وعلى ذكر عبارة الرافعي (ليس في اللغة) فإن لابن خالويه كتابا كاملا موسوم بـ "ليس في كلم العرب" وهو مطبوع متداول.

ولو قدر للرافعي أن يتعالى ويغتر فينسب إلى نفسه إبداعا لنسب لنفسه كل كتاباته وحق له ذلك؛ فإنها نمط في الكتابة معجز ونهج من النثر الفني الراقي مستحدث، ولو أراد أحد أن يتتبع ما أجدَّ الرافعي على العربية من أساليب القول لأخرج قاموسا من التعبير الجميل يعجز عن أن يجد مثله لكاتب من كتاب العربية الأولين، وفي ذلك يقول العقاد: ((إنه ليتفتق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما يتفتق مثله لكاتب من كتاب العربية في صدر أيامها) ويقول المازني: ((وأحسبني لا أبالغ حين أقول إن له من آثاره ما لا يرقى إليه قلم في القديم أو الحديث))

شيخنا الحسني إن عبارة الرافعي (هذا الاستعمال مما وضعناه نحن وليس في اللغة) ليس فيها ما يقتضي الغرور ذلك أن غاية ما فيها نوع استجازة وإعتاب. وليس فيها دلالة على الفخر والتباهي والتمييز. ولهذا لم تكن هذه العبارة في متن كتاب الرافعي "وحي القلم" وإنما هي تعليق في حاشية.

شيخنا الحسني لو سلمنا أن الرافعي ادعى السبق في عبارة (سهلا مهلا) فإن عذره أنه لم يسمع (سهلة مهلة) من الجزائريين لأن الرافعي كان في عزلة تامة عن عالم الأصوات فقد كان أصم فقد حاسة السمع وهو لم يجاوز الثلاثين بعد. وكان أكثر ما يدور بينه وبين الناس من الحديث كتابة في ورق.

شيخنا الحسني إنه لو سلمنا أن عالما ادعى أنه سبق إلى شيء وتبين أن الأمر ليس كذلك فإنه لا ينسب للغرور ولا يرمى بالتعاظم والكبر، بل الإنصاف أن نقول أن ذلك مبلغ علمه وإحاطته وأنه لم يطلع على من سبقه إلى ما نسبه لنفسه، وهذا تجده في صنيع جملة من أهل العلم. وهاأنت تدعي (أن البربر هم الذين وضعوا أول رواية في تاريخ الإنسانية، وهي "الحمار الذهبي" لأيوليوس)، وعند التحقيق نجد أن الأمر ليس كذلك؛ فهذا الدكتور أبو العيد دودو مترجم الرواية يقول في مقدمته: ((ليس هناك ما يمنعنا من اعتبار رواية "الحمار الذهبي" ثاني رواية ظهرت في العالم)). ويذكر الروائي السوري خيري الذهبي: ((إن لوقا السوري من القرن الثاني الميلادي، هو الروائي الأول في العالم، وقد ترك قصصاً عديدة منها قصة بعنوان "قصة حقيقية" وهي مستوفية لشروط الفن القصصي بمقاييس عصرنا، وهي مكتملة فنياً إلى حد الروعة)) ([7] ( http://majles.alukah.net/#_ftn7)). فهل يسوغ لمن اقتنع بما ذكرت أن يصف الحسني بما وسم به الرافعي.

شيخنا الحسني لو سلمنا أن الرافعي ادعى أن سهلا مهلا من اختراع المصريين في زمانه وعصره وهو المولود سنة 1880م، فما الذي يمنع القول بأن عبارة (سهلة مهلة) انتقلت من مصر إلى الجزائر وسمعها الحسني في زمانه من الأميين سهلة مهلة، إلا أن ندعي أن الحسني وقف على هذه العبارة في الأرشيف العثماني أوفي رسائل ابن تاشفين زمن المرابطين.

شيخنا الحسني لو قلنا أن للجزائريين حق السبق في استعمال (سهلا مهلا) فإن لكنة الجزائري وطريقة نطقه لها تخفى معها أجراس الحروف فلا يتبينها السامع، وقد وصف الرافعي عامية الجزائر فقال: ((تحسبها مخلّفة عن بعض اللغات الأعجمية، فضلا عما فيها من جَسْأة المنطق ونُبُوِّه إلا عن مسامع أهلها، بحيث يكاد لا يدور في مسمع الغريب عنهم إلا مقاطع صوتية يحسبها لأول وهلة ميتة في ذهنه)).

وبناء على هذا فإن للرافعي الحق له أن يدعي أن (سهلا مهلا) من عنديتهم؛ لأنه لم يسمعها عن الجزائريين كذلك بل سمعها (سهله مهله) أي مبدلة محرفة مع جَسْأة المنطق ولكنة البربر ونبرة الفرنسيس.

شيخنا الحسني إن الرافعي لم يتعاظم ولم يدعي أنه ليس من زمرة البشر ولم يقل أن الله تعالى ميزه بجوهر غير الجوهر ولا زاد في دمه نقطة زهو.

وقبل أن أختم استوقفتني عبارة في مداخلة الشيخ الهادي الحسني على قناة المستقلة وهي نقله عن الأستاذ مبارك آل معزوز قوله: ((إن زمن الرافعي انتهى)). وهنا أقول شيخنا الحسني إن الزمن يتناهى عندما يذكر الرافعي، فهو أبدا قائم في مكانه، وكلما تقدم الزمن زاد في إثباته، وقد أصبح في الدنيا كأنه جهة من الجهات لا إنسان من الناس، فلن يتغير أو يمحى إلا إذا تغير أو محي المشرق والمغرب.

إن الرافعي سيبقى على الأيام ما بقي للأدب ذكر ومقام. وما بقي في الأدباء من يرفعون رايته وينهلون من وحيه.

والعجيب أنك ذكرت بعد مقالة انتهاء زمن الرافعي (عندنا رواية اللاز لطاهر وطار) ووالذي خلق الرافعي إن طاهر وطار ما ريش وما طار، و أنا أتحدى طاهر وطار أن يأتي بفصل من مقال في قوة وجمال جمل الرافعي ولو جاء بوسيني الأعرج ظهيرا.

لو كان غير الحسني من يشيد برواية اللاز لقلنا أن الأمر نجش علمي في سوق الأدب الجزائرية الكاسد، الذي نفشت فيه كل جرباء، ولكن الإشكال أن يصدر الكلام من الحسني الذي قبض قبضة من البيان الابراهيمي وتنسم من عبق أوراق الورد في مدينته، ولكن الشأن كما قيل:

يقضى على الحسني أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

واستسمح الحسني وأختم بكلمة لشيخنا البشير الإبراهيمي: ((إن كلمة الحق في العلم ككلمة الحق في الدين كلاهما سابغة الأثواب مرجوة الثواب)).

([1]) جريدة الشروق الجزائرية،2009.11.25.

([2]) مجلة "الثقافة" الجزائرية عدد 87 سنة 1985.

([3]) "وحي القلم" مصطفى صادق الرافعي. ج2. ص 231.

([4]) المعارك الأدبية في مصر، أنور الجندي، معركة الأسلوب.

([5]) "وحي القلم" للرافعي 2/ 331

([6]) مقدمة "حياة الرافعي" للعريان

([7]) الفرات يومية سياسية تصدرعن مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر - دير الزور سوريا الثلاثاء 4 - 12 - 2007.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير