ومنهم الدكتور جواد علي، فقد رفض فكرة التعليق لاُمور منها:
1 ـ أنّه حينما أمر النبي بتحطيم الأصنام والأوثان التي في الكعبة وطمس الصور، لم يذكر وجود معلقة أو جزء معلّقة أو بيت شعر فيها.
2 ـ عدم وجود خبر يشير إلى تعليقها على الكعبة حينما أعادوا بناءَها من جديد.
3 ـ لم يشر أحد من أهل الأخبار الّذين ذكروا الحريق الذي أصاب مكّة، والّذي أدّى إلى إعادة بنائها لم يشيروا إلى احتراق المعلّقات في هذا الحريق.
4 ـ عدم وجود من ذكر المعلّقات من حملة الشعر من الصحابة والتابعين ولا غيرهم.
ولهذا كلّه لم يستبعد الدكتور جواد علي أن تكون المعلّقات من صنع حمّاد، هذا عمدة ما ذكره المانعون للتعليق.
بعد استعراضنا لأدلة الفريقين، اتّضح أنّ عمدة دليل النافين هو ما ذكره ابن النحاس حيث ادعى أن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال.
وجواب ذلك أن جمع حماد لها ليس دليلا على عدم وجودها سابقاً، وإلاّ انسحب الكلام على الدواوين التي جمعها أبو عمرو بن العلاء والمفضّل وغيرهما، ولا أحد يقول في دواوينهم ما قيل في المعلقات. ثم إنّ حماداً لم يكن السبّاق إلى جمعها فقد عاش في العصر العباسي، والتاريخ ينقل لنا عن عبد الملك أنَّه عُني بجمع هذه القصائد (المعلقات) وطرح شعراء أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة.
وأيضاً قول الفرزدق يدلنا على وجود صحف مكتوبة في الجاهلية:
أوصى عشية حين فارق رهطه عند الشهادة في الصحيفة دعفلُ
أنّ ابن ضبّة كان خيرٌ والداً وأتمّ في حسب الكرام وأفضلُ
كما عدّد الفرزدق في هذه القصيدة أسماء شعراء الجاهلية، ويفهم من بعض الأبيات أنّه كانت بين يديه مجموعات شعرية لشعراء جاهليين أو نسخ من دواوينهم بدليل قوله:
والجعفري وكان بشرٌ قبله لي من قصائده الكتاب المجملُ
وبعد أبيات يقول:
دفعوا إليَّ كتابهنّ وصيّةً فورثتهنّ كأنّهنّ الجندلُ
كما روي أن النابغة وغيره من الشعراء كانوا يكتبون قصائدهم ويرسلونها إلى بلاد المناذرة معتذرين عاتبين، وقد دفن النعمان تلك الأشعار في قصره الأبيض، حتّى كان من أمر المختار بن أبي عبيد و إخراجه لها بعد أن قيل له: إنّ تحت القصر كنزاً.
كما أن هناك شواهد أخرى تؤيّد أن التعليق على الكعبة وغيرها ـ كالخزائن والسقوف والجدران لأجل محدود أو غير محدود ـ كان أمراً مألوفاً عند العرب، فالتاريخ ينقل لنا أنّ كتاباً كتبه أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة في حلف خزاعة لعبد المطّلب، وعلّق هذا الكتاب على الكعبة. كما أنّ ابن هشام يذكر أنّ قريشاً كتبت صحيفة عندما اجتمعت على بني هاشم وبني المطّلب وعلّقوها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم.
ويؤيّد ذلك أيضاً ما رواه البغدادي في خزائنه من قول معاوية: قصيدة عمرو بن كلثوم وقصيدة الحارث بن حِلزه من مفاخر العرب كانتا معلّقتين بالكعبة دهراً.
هذا من جملة النقل، كما أنّه ليس هناك مانع عقلي أو فنّي من أن العرب قد علّقوا أشعاراً هي أنفس ما لديهم، وأسمى ما وصلت إليه لغتهم; وهي لغة الفصاحة والبلاغة والشعر والأدب، ولم تصل العربية في زمان إلى مستوى كما وصلت إليه في عصرهم. ومن جهة أخرى كان للشاعر المقام السامي عند العرب الجاهليين فهو الناطق الرسمي باسم القبيلة وهو لسانها والمقدّم فيها، وبهم وبشعرهم تفتخر القبائل، ووجود شاعر مفلّق في قبيلة يعدُّ مدعاة لعزّها وتميّزها بين القبائل، ولا تعجب من حمّاد حينما يضمّ قصيدة الحارث بن حلزّة إلى مجموعته، إذ إنّ حمّاداً كان مولى لقبيلة بكر بن وائل، وقصيدة الحارث تشيد بمجد بكر سادة حمّاد، وذلك لأنّ حمّاداً يعرف قيمة القصيدة وما يلازمها لرفعة من قيلت فيه بين القبائل.
فإذا كان للشعر تلك القيمة العالية، وإذا كان للشاعر تلك المنزلة السامية في نفوس العرب، فما المانع من أن تعلّق قصائد هي عصارة ما قيل في تلك الفترة الذهبية للشعر؟
ثمّ إنّه ذكرنا فيما تقدّم أنّ عدداً لا يستهان به من المؤرّخين والمحقّقين قد اتفقوا على التعليق.
فقبول فكرة التعليق قد يكون مقبولا، وأنّ المعلّقات لنفاستها قد علّقت على الكعبة بعدما قرئت على لجنة التحكيم السنوية، التي تتّخذ من عكاظ محلاً لها، فهناك يأتي الشعراء بما جادت به قريحتهم خلال سنة، ويقرأونها أمام الملإ ولجنة التحكيم التي عدُّوا منها النابغة الذبياني ليعطوا رأيهم في القصيدة، فإذا لاقت قبولهم واستحسانهم طارت في الآفاق، وتناقلتها الألسن، وعلّقت على جدران الكعبة أقدس مكان عند العرب، وإن لم يستجيدوها خمل ذكرها، وخفي بريقها، حتّى ينساها الناس وكأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً.
عن الموسوعة الشعرية
ـ[أبو معاوية البيروتي]ــــــــ[11 - 03 - 10, 10:05 ص]ـ
جزاك الله خيراً يا أخي محمد.