تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والرفاهية والتدمير.

إن محور التفسير الإسلامي للتاريخ هو: إن ما يقع من الحوادث إنما يخضع لسنن إلهية، كونية أو دينية، وإن ظاهر التدين أصيلة قوية في الإنسان بالفطرة التي خلقه الله عليها، فهو يتجه إلى الدين ولكن شياطين الإنس والجن يجتالونه عن هذه الفطرة فيغير ويبدل.

ومن هذه السنن:

1 - إن الدولة الكبرى أو الحضارات لا تقوم إلا بدين أو ببقايا دين.

2 - سنة دفع الله الناس بعضهم ببعض ومداولة الأيام بينهم ليتبين الحق ويظهر الخير.

3 - زوال الأمم وهلاكها بالترف والفساد وعدم إقامة العدل.

4 - الناس مسؤولون عن رقيهم وانحطاطهم.

5 - استحقاق النصر للمؤمنين.

وسنتكلم عن كل واحدة من هذه السنن بشيء من التفصيل.

أولاً - من الملاحظ أن محل الدراسة التاريخية في القرآن الكريم ليس المقصود بها شعباً معيناً أو دولة معينة بقدر ما هو مقصود: ما هو دين هذه الأمة وما هي عقيدتها؟ وما موقفها من الرسل والأنبياء؟ فالتركيز على (الملة) باعتبار أن ظاهرة التدين هي الأصل في الإنسان قال تعالى: ((إنَّ الَذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا والنَّصَارَى والصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [البقرة/62]، فالحديث هنا عن (ملل) معينة وليس عن شعوب أو دول، وعندما يذكر القرآن الحوادث التي وقعت لبني إسرائيل يسردها دون ترتيب زمني؛ لأن المقصود أن هذه الأمة (يهود) لها صفات معينة، وهذا واضح من سيرتهم مع نبيهم موسى -عليه السلام-، وقد امتن الله على اليهود المعاصرين لفجر الدعوة الإسلامية بنعمة أنعمها على آبائهم، وذلك لأنهم أمة واحدة، وقصص الأنبياء في القرآن هي قصة الصراع بين التوحيد وبين الوثنية والأمة الإسلامية يقابلها الأمم النصرانية أو المجوسية .. وقد فرح المسلمون في مكة ببشارة القرآن لهم بانتصار الروم على الفرس، لأن الروم أهل كتاب فهم أقرب من المجوس.

وتركيز القرآن علي هذه الناحية يؤكد أن الدين هو العامل الفعال في تكوين الحضارات والدول الكبرى سواء كان هذا الدين حقاً كما أنزله الله سبحانه وتعالى أو قد حرف وبدل، المهم هو أن فكرة التدين أو التطلع الغيبي هي التي تعطي الحماس والجد والعاطفة التي تحتاجها الدول في إبان تأسيسها، وقد خلق الإنسان متديناً بفطرته، بالعهد الذي أخذ عليه ((ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)) بل لا يوجد شعب مهما كان موغلاً في الهمجية إلا وتطلع إلى الغيبيات، (وإن الغريزة الدينية المشتركة بين كل الأجناس البشرية لا تختفي بل لا تضعف إلا في فترات الإسراف في الحضارة وعند عدد قليل جداً من الأفراد) (12).

يقول المفكر الجزائري مالك بن بني: (فالحضارة لا تنبعث - كما هو ملاحظ - إلا بالعقيدة الدينية، وينبغي أن نبحث في كل حضارة من الحضارات عن أصلها الديني، وكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية) (13)، ويقول توينبي: (والتحول الديني كان حقيقة مبدأ كل شيء في التاريخ الانكليزي) (14).

وهنا يثار سؤال: كيف تقوم دول كبرى على الوثنية المحضة وليس فيها أي أثر للدين، كالدول الشيوعية في هذا العصر، والجواب كما قال مالك بن نبي: (هذا الخطأ الشائع إنما يأتي أولاً من تفسير أصول الشيوعية باعتبارها حضارة، وثانياً إننا نعتبر الشيوعية (أزمة) للحضارة الغربية المسيحية) (15). وهذا التفسير ليس غريباً، فقد ذكرت قبل قليل أن نزعة التدين لا تخلو منها أمة من الأمم إلا في فترات استثنائية، ولابن تيمية كلام يقرر فيه شيئاً من هذا، يقول - رحمه الله - بعد كلام عن الأنبياء وفضلهم على البشرية: (ويقال هنا: إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا بنبوة أو آثار نبوة وأن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات ولا يستريبن العاقل في الأقوام الذين درست النبوة فيهم كالبراهمة والمجوس) (16)، كما يقرر ابن خلدون المعنى نفسه حيث يقول: (الدول العامة الاستيلاء، العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق) (17).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير