ونحن يمكننا أن نضيف على كلام ابن خلدون: أو (بفكرة) تبلغ عند أصحابها مبلغ التقديس للديانات ويتفانون في تطبيقها، وهذا من ناحية نفسية لا من ناحية تاريخية، وهذه الحضارات والدول وإن قامت ابتداء على الدين إلا أنه مع تطاول الزمن والإسراف في الحضارة يبدأ الفساد ينخر فيها ولابد إذن من مبدأ الدفع الذي سنه الله سبحانه وتعالى.
ثانياً - إن مبدأ الصراع بين الأمم ليظهر الخير ويخفف من الشر هو من أعظم السنن الكونية، قال تعالى: ((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً)) [الحج:40]، وقال تعالى: ((ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ)) [البقرة:251].
فالأرض تفسد إذا طال فيها مكث الطواغيت وحكوماتهم الفاسدة، ولم يقم من يجاهدهم ويدفع فسادهم ويريح العباد والبلاد منهم، والله ذو فضل على الناس أن جعل هذه السنة من سننه الكونية حتى تتطهر الأرض بين كل فترة وأخرى، كما أن هذا الصراع يرمي إلى تقوية المؤمنين، فيزداد نشاطهم ويحققوا ما يريده الله منهم، يقول ابن تيمية شارحاً الآية السابقة:
(وقد بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فهدم صوامع النصارى وبيعهم فساد، إذا هدمها المجوس والمشركون، وأما إذا هدمها المسلمون وجعلوا أماكنها مساجد يذكر فيها اسم الله فهذا خير وصلاح، فالله سبحانه يدفع شر الطائفتين بخيرهما كما دفع المجوس بالروم والنصارى ثم دفع النصارى بالمؤمنين) (18).
ويقول أحد المؤرخين الغربيين (هوايتهد): (إن صراع العقائد والمذاهب ليس كارثة بل فرصة).
إن المنطقة العربية - وبلاد الشام خاصة التي بارك الله فيها - من مراكز الصراع الكبرى في العالم حتى يتبين الحق والباطل ويتمحص أهلها ويأخذوا أجر الدفع والجهاد في سبيل الله، قال تعالى ذاكراً بلاد الشام: ((سُبْحَانَ الَذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى المَسْجِدِ الأَقْصَا الَذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)) [الإسراء:1]، وقال: ((وأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ ومَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا)) [الأعراف:137]، وبنوا إسرائيل أورثوا مشارق ومغارب بلاد الشام، وقال تعالى ذاكراً إبراهيم - عليه السلام -: ((ونَجَّيْنَاهُ ولُوطاً إلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:81]، وإبراهيم إنما نجاه الله ولوطاً إلى أرض الشام.
وعن أبي الدرداء قال: (سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:» يوم الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين بأرض يقال لها: الغوطة، وفيها مدينة يقال لها: دمشق خير منازل المسلمين يومئذ) (19).
وعن خريم بن فاتك الأسدي قال: (أهل الشام سوط الله في الأرض ينتقم بهم ممن يشاء، كيف يشاء) (20).
كما ورد في الحديث الصحيح:» إذا أحب الله قوماً ابتلاهم «(21).
وعلى أرض الشام ومصر قام الصراع بين المسلمين والصليبيين، فكان لهم فضل رد هؤلاء الغزاة عن كل بلاد المسلمين، وعلى أرض الشام هُزم التتار لأول مرة بعد زحفهم المدمر على بلاد الإسلام.
وفي العصر الحديث ابتليت باليهود وبكل الحاقدين على الإسلام، فهي في صراع مستمر حتى يميز الله الخبيث من الطيب ويتخذ منهم شهداء، والذي ينظر بعين البصيرة إلى تجمع اليهود من كل أنحاء العالم، يشعر وكزنهم يساقون سوقاً إلى هذه المنطقة، بل استطاعوا جرّ أمريكا وأوربا وراءهم لتصبح من المراكز الحساسة جداً في السياسة العالمية. يقول الدكتور زين نور الدين زين: (ربما ليس هناك بقعة أخرى في الدنيا كلها وقعت حروب على أرضها وعبرت شعوب ثم عادت لتعبر ثانية فوق أرضها كمنطقة الشرق الأدنى، فهذه المنطقة كانت أبداً ساحة معركة للجيوش، كما أنها كانت معتركاً للفكر) (22)، ويقول أيضاً: (إن المشاكل الحديثة التي جدت في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية تدفع بالمرء أحياناً إلى الاستنتاج أن القدر ذاته كان منذ فجر التاريخ يلعب دوراً حاسماً في مصير الشرق الأدنى وأنه مكتوب على شعوب هذه المنطقة أن تعيش في حالة مستمرة من التوتر والتنازع،
¥