تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فعذاب التفرق والتحزب هو من العذاب الذي يصيب المسلمين كما يصيب غيرهم، بل ربما كان في المسلمين أشد، لأن هذا من عذابهم في الدنيا، وقال - صلى الله عليه وسلم -:» ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله «(27).

وما هذه الأمراض الفتاكة التي تظهر بين الفينة والأخرى وتستعصي على الطب والأطباء، إلا من عذاب الله لهذه الأمم التي انغمست في حمأة الرذيلة وما هذا القتل المستمر بين الناس لا يدري القاتل والمقتول فيم يقتتلان، وما هذه الزلازل المدمرة في لحظات وثوان، إلا من عقاب الله الظاهر والخفي.

يقول ابن تيمية مطبقاً هذه القاعدة على التاريخ الإسلامي: (وقد أصاب أهل المدينة (28) من القتل والنهب والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان ذلك لأنهم بعد الخلفاء الراشدين أحدثوا أعمالاً أوجبت ذلك، وكان على عهد الخلفاء يدفع الله عنهم بإيمانهم وتقواهم) (29).

وجاء في (سير أعلام النبلاء) تعليقاً على الأحداث التي جرت في مكة بين جيش يزيد بقيادة الحصين بن نمير السكوني وبين جيش عبد الله بن الزبير:

(دخل عبد الله بن عمرو المسجد الحرام والكعبة تحترق حين أدبر جيش حصين بن نمير، فوقف وبكى وقال: أيها الناس، والله لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتلوا ابن نبيكم (الحسين بن علي) ومحرقوا بيت ربكم لقلتم: ما أحد أكذب من أبي هريرة، فقد فعلتم فانتظروا نقمة الله فليلبسنكم شيعاً، ويذيق بعضكم بأس بعض) (30). وأما ما حل بالأمم السابقة بسبب فساد أخلاقها فهو معروف مشهور وأكبر مثال على ذلك ما حل بالدولة الرومانية، فقد سقطت أمام جحافل الزاحفين عليها وكأنها لم تكن والفساد والبطر الذي تمارسه أوربا في هذا العصر حدا بالعقلاء منهم إلى إرسال صيحات الإنذار والخطر، ويقول ألكسس كاريل: (وهذا هو السبب في أن الأسر والأمم والأجناس التي لم تعرف كيف تميز بين الحلال والحرام تتحطم في الكوارث، فمرض الحضارة والحرب العالمية نتيجتان ضمنيتان لانتهاك حرمة النواميس الكونية) (31).

وكاريل يتحدث عن مرض الحضارة قبل الحرب الثانية وبعدها بقليل، فكيف لو شاهد قمة التفسخ الأخلاقي والاجتماعي الذي يعيشه الغرب الآن. وهذا ما حدا أيضاً بمؤرخ كتوينبي أن يطلب من الغرب إعادة الدين إلى قوته الأولى وإيقاف جبروت العلم (32).

رابعاً - ومما هو قريب من السنة السابقة: أن الناس هم المسؤولون عن رقيهم وانحطاطهم، قال تعالى: ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد:11]، فالتغيير يجب أن يبدأ من الإنسان، والله سبحانه وتعالى ييسر له السبل التي يريدها والأمة التي تعشش فيها الأفكار الميتة والأنانية والبغض والحسد، وقد ركنت إلى الكسل والخمول، هذه الأمة لا يمكن أن تنتج تقدماً أو شيئاً يذكر بل إن حكماً علمانياً يمكن أن يستمر ويزدهر بالاتحاد والعدالة أكثر من حكم أدعياء الإيمان إذا ما ركنوا إلى الأخلاق المنحلة وإلى الفوضى والعصيان (33).

لقد نقل الإسلام العرب نقلة بعيدة غيرت ما بأنفسهم تغييراً شاملاً وجذرياً، وكل الأفكار القاتلة من عصبيات وخرافات وعقائد ساذجة مضحكة، كل هذا تغير بعقيدة التوحيد الواضحة الشاملة لكل مناحي النفس الإنسانية وعندئذ استطاعوا تغيير ما بأنفس الأمم الأخرى، لقد بدأ التغيير بكلمة ((اقرأ)) ورجل الفطرة الذي لم تفسده الفلسفات الباردة أو الترف المردي، إن تدبر القرآن الكريم والسنة النبوية كفيلان بتغيير ما بالنفس من أمراض ليعود رجل الفطرة إلى دوره في السير على هدى الله ويحقق ما خلق من أجله. وإن تغيير ما بالنفس ليس عملية صعبة فهذه أمم في العصر الحديث استطاعت أن تنهض من كبوتها بسبب وجود الإنسان الذي اكتملت فيه الشروط النفسية للتغيير، وليس بسبب وجود المادة وتراكمها، وأكبر مثال على ذلك ما فعله الشعب الألماني الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف عمر بلده بعد أن أصبح خراباً بسبب الحرب، ورجعت ألمانيا كأقوى الدول الغربية اقتصادياً، وصدق فيهم ما قاله الصحابي عمرو بن العاص عن أجدادهم الروم: (وأسرع الناس إفاقة بعد مصيبة) (34)، وعندما يغير المسلمون ما بأنفسهم سيأخذ الله سبحانه وتعالى بأيديهم، لأن هذا وعده ومن أصدق من الله قيلاً.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير