تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفي عصورِ الضَّعفِ لم يأخذْ جانبُ التَّحليلِ والدِّراسةِ حقَّهُ؛ (بسبب النَّظرةِ التجزيئيةِ للقَضَايا، والسَّطحيةِ في التَّعاملِ مع الرِّواياتِ، وعدمِ وضوحِ التصورِ الإسلاميِّ لحركةِ التَّاريخ ودُورِ الفردِ والجماعةِ، والعلاقةِ الجدلية بين القدرِ والحريةِ وقانون السَّببيةِ في الرَّبطِ بين المقدماتِ والنَّتائجِ.

فضلاً عن أنَّ الكتبَ التَّاريخية القديمة لا تُمدنا بمنحى واضحٍ في التَّحليلِ والتصورِ الكليِّ؛ بسببِ اعتمادِها على سَرْدِ الرِّواياتِ فقط؛ إذْ قلَّما يُشيرُ المُؤرِّخ الإسلاميُّ القديمُ إلى السُّنن والنَّواميسِ والقوانين الاجتماعيةِ التي تحكم حركةَ التَّاريخ، رغم أنَّ القُرآنَ الكريمَ لفتَ نظرَ المسلمين إلى ذلك كلِّه بوضوحٍ، بل إنَّ أحداً مِن مُؤرِّخي الإسلامِ لم يحاولْ إعادةَ صياغةِ النَّظرةِ القُرآنيةِ للتَّاريخِ وتقديم الوقائع والتطبيقات والشَّواهد القرآنية عليها بشكلِ نظرياتٍ كُلِّيةٍ حتَّى وقت متأخر عندما كتبَ ابنُ خَلْدُون مُقدمتَهُ) 37.

ولغيابِ النَّظرةِ التحليليةِ في دِراسة السِّيرة فقد غلب عليها الطَّابعُ التسجيليُّ السَّرديُّ الذي يُحاولُ إثباتَ الوقائعِ ووصف تطورِ الأحداثِ وتقرير النتائج دُونَ الالتفاتِ إلى المقدماتِ ومحاولةِ اكتشافِ المنهجِ الذي يُسَيِّرها. ومع أنَّ الدراسات شملتْ وصفاً دقيقاً لكلِّ أحوالِ النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- وأفعالِهِ وكلِّ ما يتصلُ به .. إلا أنَّ الحديثَ عن المعجزاتِ والُمؤيِّداتِ الغيبيةِ كان على حسابِ سُنن عالمِ الشَّهادةِ التي يتحرَّكُ في إطارِها ويصنع الأحداثَ ويحقق النتائج38.

(الحقُّ أنَّ المحدِّثين في باب التحليلِ والتعليقِ والموازنةِ بين المواقفِ قد أرْبَوا على المتقدِّمين، وأكسبُوا السِّيرة جِدَّةً ورُواءً، وقد تفاوتُوا في ذلكَ على حسبِ تفاوتِهم في المراتبِ، وسعةِ العلمِ والأفقِ، والاطلاعِ على سيرِ الآخرين) 39. ولكن غالبُ هذه الدِّراساتِ قد ركَّزَ على جانبِ إثباتِ النُّبوةِ، وإبراز الخصائصِ. وهو أمرٌ لهُ مُسوِّغُهُ الظرفيُّ في الصِّراعِ مع المخالفين. واهتمَّ جُزءٌ آخرُ باستخراجِ الأحكامِ والتوجيهاتِ والفوائدِ، واهتمَّ آخرونَ بالتفسيرِ الحركيِّ لتسويغِ بعضِ مواقفِ الحركةِ الإسلاميةِ المعاصرةِ.

ثاني عشر: الاهتمام بتحرير المنهج النبويِّ في سائر المجالات:

بقيت العنايةُ بالمنهج قليلةً، مع أنه بإمكانِ النَّظرةِ الشُّموليةِ لهذه الجهودِ العلميةِ الضَّخمةِ الآنفةِ الذِّكرِ أنْ تستخلصَ البِنيةَ الهيكليةَ العامةَ للمنهجِ النَّبويِّ في نواحيهِ المختلفةِ 40. نعم .. إنَّ استخلاصَ المنهجِ مطلبٌ ضروريٌّ، بيدَ أنه ليس بالأمرِ اليسيرِ، خِلافاً لما قد يتوهمُّهُ بعضُهم حين ظنُّوا أنَّ (المنهج النبويِّ) على طرف الثُّمام، وأنَّ نظرةً عجلى على السِّيرة العطرة، أو جزءٍ من السنة المطهرة، أو انتقاء مقاطع مِن هنا أو هناك كافيةٌ للإحاطةِ بهذا المنهجِ الفذِّ، وبناء حتمياتٍ تاريخيةٍ على تلك الأفهامِ العجلةِ. وتصوُّر بعضٍ أن بالإمكان إعادة إنتاج العهدين المكي والمدني، أو تمثيلهما في أي واقع يُعَدُّ مجازفة كبيرة

إنَّ المنهجَ حين يُطلقُ في إطارٍ معرفيٍّ إنَّما يُرادُ به قانونٌ ناظمٌ ضابطٌ يُقنن الفكرَ ويضبطُ المعرفةَ التي إنْ لم يضبطْها المنهجُ فقد تتحولُ إلى مُجرَّدِ خطراتٍ انتقائيةٍ مهما كانتْ أهميتُها لا يمكنُ تحويلُها إلى ضوابطَ فكريةٍ وقوانينَ معرفيةٍ تنتجُ الأفكارَ وتُولِّدُ المعارفَ وتضبطُ حركاتها وتُميِّزُ بينها؛ فبالمنهجِ يُمكن أنْ نحُدد طبيعةَ المعرفةِ وقيمتها وحقلَ عملِها واتجاهِها وكيفيةِ البناءِ عليها والتوليدِ منها ...

إنَّ أيَّ فكرٍ تتضاربُ مقولاتُهُ وتتناقضُ لا يُعتبرُ فِكْراً منهجياً حتَّى لو تمكَّنَ أصحابُهُ من تقديمِ مختلفِ التأويلاتِ التوفيقيةِ: كالتَّأويلِ، والمقاربةِ، والتلفيقِ، وغيرِها. ولذلكَ فإنَّ إطلاقَ مُصطلحِ: (منهج النَّبيّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-) و (المنهج الإسلامي) على ما يصلُ الباحثون إليهِ باجتهادٍ شخصيٍّ أو فرديٍّ لابُدَّ أنْ يُحتاطَ فيه، كأنْ يُقالَ: على ما نَرَاهُ، أو على ما توصَّلنا إليه ... إلخ) 41.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير