تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفعله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا يخلو إمَّا أنْ يكونَ صدَرَ منه بمحضِ الجِبِلَّةِ، أو بمحضِ التَّشريعِ، وهذا قد يكونُ عامَّاً للأمة، وقد يكون خاصَّاً به -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، فهذه ثلاثةُ أقسامٍ:

القسم الأول: الأفعالُ الجِبِلَّيَّةُ: كالقيامِ والقُعودِ والأكلِ والشُّربِ، فهذا القِسمُ مُباحٌ؛ لأنَّ ذلكَ لم يُقصدْ به التَّشريعُ ولم نُتعبَّدْ به، ولذلك نُسِبَ إلى الجِبِلَّة، وهي الخِلْقةُ.

القسم الثاني: الأفعال الخاصة به -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- التي ثبت بالدَّليلِ اختصاصُهُ بها كالجمعِ بين تِسعِ نسوةٍ؛ فهذا القِسمُ يحرُمُ فيه التَّأسِّي به.

القسم الثالث: الأفعال البيانية التي يقصد بها البيان والتشريع، كأفعال الصَّلاة والحج، فحكم هذا القسمِ تابعٌ لما بيَّنَهُ؛ فإنْ كانَ المبيَّنُ واجِباً كانَ الفعلُ المبيِّنُ له واجِباً، وإنْ كانَ مندُوباً فمندوبٌ) 51.

خامس عشر: معرفة كيفية الاستفادة منها في الواقع:

الدِّراسةُ المفيدةُ للسِّيرةِ تحصلُ حينَ تُدرَسُ على أنَّها سُننٌ ربَّانيةٌ يُمكنُ أنْ تتكررَ كلما تكررتْ ظروفُها، ولا تتحققُ أبداً حينَ ننظرُ للسِّيرةِ على أنَّها مُجرَّدُ أحداثٍ مُفردةٍ قائمةٍ بذاتٍها حدثتْ زمنَ البعثةِ النَّبَويَّةِ ... بل هيَ آياتٌ وعِبَرٌ في شؤونِ الحياةِ كلِّها، وإلا ضاعَ رصيدُها وقوتُها الدَّافعةُ لأجيالِ المسلمين؛ فهي تربطُ المسلمُ بالسُّننِ الرَّبانيةِ، وتربطُ قلبَهُ باللهِ –تعالى- 52.

إنَّ كلَّ حركةِ إصلاحٍ أو تغييرٍ تعجزُ عن الاستفادةِ من السِّيرة في صياغةِ مناهجِها وحلِّ مُشكلاتِها هي بعيدةٌ عن الاقتداءِ؛ لأنَّ الواجبَ تجريدُ السِّيرة من قيدِ الزَّمانِ والمكانِ لتجيب عن أسئلة الواقع ومشكلاته. وهذا النوع من الدراسات قليل جداً؛ إذ جلّ الدراسات لا تعبر عن عصر مؤلفها، ولا تخدم احتياجات واقعه، ولا تطرق مشكلاته.

قد تكون المشكلة كامنة أحياناً في غياب المقاصد الحقيقية التي تمثل معاني الخلود عند دارسي السِّيرة أي قدرتها على التعامل مع جميع الظروف مما جعلها عند كثيرين تاريخاً لا مصدراً للاهتداء والتشريع.

وهي لا شك تاريخ، ولكنها تاريخٌ وحاضر ومستقبل: تاريخٌ زماناً ومكاناً، وحاضرٌ عطاءً ومصدراً للتشريع، ومستقبلٌ رؤية ًواستشرافاً. وإذا كان التَّاريخ مصدراً للدرسِ والعبرةِ فالسِّيرة أَوْلى؛ لأنها فترةٌ مُسددةٌ بالوحي، وحقبةُ بيانٍ عمليٍّ للدِّينِ. لقدْ سببَ غيابُ هذا المنطلقِ إغراقاً في الفقهِ النَّظريِّ سواء الذي يسيرُ خلفَ المجتمعِ، أو البعيد عن واقعِهِ كما سببَ تراجُعاً في الفقهِ التطبيقيِّ (فقه التنزيل) , فصارتْ مشكلاتُ المسلمينَ تنشدُ الحلَّ المستوردَ. إنَّ مما يُؤكِّدُ أهميةَ الانطلاقِ من ذلك المنطلقِ حين التعامل مع السِّيرة ما يُشير إليه ترتيبُ سُورِ القُرآنِ وآياتِهِ, والسِّيرة بيانٌ عمليٌّ للقرآنِ فلم يجئْ ترتيبُهُ حسب نزولِهِ زَمَاناً ومَكَاناً؛ لئلَّا يبقى المتأسِّي أسيرَ الزَّمانِ والمكانِ الماضيينِ، بل ليبقى مُسخِّراً للزَّمنِ مُتحكِّماً فيه يستطيعُ تحديدَ الموقعِ المناسبِ للاقتداءِ من خلالِ قيمِ القُرآنِ الكريمِ ومسيرةِ السِّيرة بحسب الظُّروفِ والإمكاناتِ وطبيعة أقدارِ التدينِ التي تحدد مكان الاقتداء من السِّيرة ... هذا وإلا بقيت السِّيرة في خانة التبرك والفخر تصاغ في شكل موالد وموائد تشيع فيها البدعة، وتضيع فيها السنَّة، وتضيع معها الأوقات53. وفي سيرة سلفنا إضاءاتٌ للمستنيرين بنورِها، فهذا أبو بكر الصِّدِّيق -رضي الله عنه- يقاتلُ مانعي الزَّكاةِ، ويقولُ لعمرَ بنِ الخطَّاب لمَّا حاولَ تأجيلَ قتالِهم:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير