جاء عيسى (عليه السلام) وأحوال بني إسرائيل في غاية الفساد والإفساد، فعقائدهم قد طمست، وأخلاقهم قد رذلت، وسيطرت عليهم المادية الجشعة، حتى إنهم اتخذوا من المعبد سوقاً للصيارفة والمرابين، وملهى لسباق الحمام. فأخبرهم (عليه السلام) بأن العقوبة قادمة إليهم بسبب هذا الإفساد. وفي هذا فقد أورد (إنجيل متى: 23) موقف عيسى (عليه السلام) حيث قال [يا أورشليم .. يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها ولم تريدوا، هو ذا بينكم يترك لكم خراباً].
ومما يدل على أن المسجد الأقصى كان قائما في عهد عيسى (عليه السلام)، ما ثبت في السنة الصحيحة من حديث الحارث الأشعري (رضي الله عنه)، أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطئ بها، فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم. فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب، فجمع الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد وقعدوا على الشرف، فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن .. أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً .. إلى نهاية الحديث".
وواجه عيسى (عليه السلام) إفساد كهنة الهيكل من اليهود، محذراً إياهم من مغبة جشعهم وظلمهم، حيث ورد في (إنجيل لوقا: 19/ 45 - 47): [ولما دخل الهيكل ابتدأ يخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه قائلاً لهم: مكتوب أن بيتي بيت الصلاة، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص]. ولما استيأس عيسى (عليه السلام) من استجابتهم لنصائحه، أخبرهم بأن هذه النعمة سوف تسلب منهم لأنهم لم يؤدوا شكرها .. سوف يهدم المعبد .. حيث ورد في (إنجيل متى /24/ 1،2): [ثم خرج يسوع، ومضى من الهيكل، فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل، فقال لهم يسوع: ماذا تنظرون؟ الحق أقول لكم، إنه لا يترك ها هنا حجر على حجر لا ينقض].
ثم كانت مؤامرة اليهود على سيدنا عيسى (عليه السلام)، وتحريضهم على قتله، إلى أن رفعه الله تعالى إليه.
المعبد والتدمير الآخر:
صدقت نبوءة سيدنا عيسى (عليه السلام) في هدم المعبد، وذلك عندما أقدم أحد ملوك الرومان وهو الإمبراطور (طيطس) عام (70 م)، على إحراق المدينة المقدسة، وتدمير المعبد الذي أقامه هيرودس، ولم يبق فيه حجر على حجر، ولكنه أبقى الحطام مكانه، ليأتي بعده طاغية آخر هو (أدريانوس) فأزال معالم المدينة وحطام الهيكل، وأقام مكانه معبداً وثنياً سماه (جوبيتار) على اسم (رب الآلهة) عند الرومان، وكان ذلك سنة (135 م).
تدمير الهيكل الروماني:
بقي الهيكل الروماني على الهيئة الوثنية، إلى أن تمكنت المسيحية من أرض فلسطين، فدمره المسيحيون في عهد الإمبراطور (قسطنطين).
انتهاء زمن الهيمنة اليهودية والنصرانية على أرض المسجد الأقصى:
ظل مكان الهيكل خالياً من بناء مقام فيه بقية عهد الرومان النصارى حتى حدث الإسراء بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في عهد الحاكم الروماني هرقل (610 - 641م)، وحتى الفتح الإسلامي للقدس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) سنة 636م، ولم يكن لليهود آنذاك وجود، بل إن (صفرونيوس) بطريك النصارى اشترط في عقد تسليم المدينة المقدسة أن لا يدخلها أحد من اليهود.
وهكذا أغلق التاريخ ملف بني إسرائيل من يهود ونصارى فيما يتعلق بحيازة تلك الأرض المباركة ووراثتها وسدنة معبدها، لتنتقل الأرض والمعبد فيما بعد إلى حيازة ووراثة وصبغة الأمة الإسلامية، وارثة الرسالات وحامية المقدسات، بعد أن أسرى بالنبي الخاتم محمد (صلى الله عليه وسلم) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، إيذاناً ببدء العهد الإسلامي للأرض المقدسة.
بمعنى آخر، وبناءً على ما سبق، فالحركة الصهيونية عندما عملت على إنشاء دولة (إسرائيل) في القرن العشرين على أرض فلسطين، كان قد مضى على وجود آخر الجماعات اليهودية المتمردة ثمانية عشر قرناً، كما كان قد مضى على نهاية مملكة سليمان تسعة وعشرون قرنا ً، فأي حق تاريخي بحاجة إلى النقاش بعد ذلك؟ ؟
الهيكل .. عقيدة صهيونية وممارسة عملية:
¥