قال ابن كثير رحمه الله تعالى:"ونشأ بمصر طائفة من أبناء الصحابة يؤلبون الناس على حربه أي عثمان والإنكار عليه، وكان معظم ذلك مسنداً إلى محمد بن أبي بكر ومحمد ابن أبي حذيفة؛ حتى استنفرا نحواً من ست مئة راكب يذهبون إلى المدينة في صفة معتمرين في شهر رجب؛ لينكروا على عثمان فساروا إليه تحت أربع أرفاق ... وأقبل معهم محمد بن أبي بكر، وأقام بمصر محمد بن أبي حذيفة يؤلب الناس ويدافع عن هؤلاء" (9).
وكلا الاثنين ما أُتي إلا من قبل الدنيا، ولا حرضهما من حرضهما على عثمان رضي الله عنه إلا بها؛ إذ طلبا الإمارة فلما لم يُمَكَّنا منها؛ فنكثا البيعة، ونازعا السلطان، فهاج معهما أهل الشر والفتنة.
فعل محمد بن أبي بكر:
أما محمد بن أبي بكر فخرج على عثمان يطلب ولاية مصر فولاه عليها أول الأمر؛ حقناً للدماء، وتسكيناً للدهماء، وإخماداً للفتنة.
سئل سالم عبدالله بن عمر رضي الله عنهم عن محمد بن أبي بكر: "ما دعاه إلى ركوب عثمان؟ فقال: الغضب والطمع، قيل: ما الغضب والطمع؟ قال: كان من الإسلام بالمكان الذي هو به، وغَرَّه أقوام فطمع، وكانت له دالة فلزمه حق، فأخذه عثمان من ظهره ولم يداهن، فاجتمع هذا إلى هذا، فصار مذمماً بعد أن كان محمداً" (10).
ولكن من خرجوا معه ما أرادوا إلا دم الخليفة عثمان رضي الله عنه، فكان محمد فيمن دخل على عثمان وقت مقتله، فأخذ بلحيته، فقال له عثمان رضي الله عنه:"يا ابن أخي، ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي" (11) وفي رواية:"لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمُها" (12).
وقال الطبري: "وكان أول من دخل عليه الدار محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته، فقال: له دعها يا ابن أخي، فوالله لقد كان أبوك يكرمها، فاستحيا وخرج" (13).
وروى أبو سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري:"أن محمد بن أبي بكر دخل عليه فأخذ بلحيته قال: فقال له: قد أخذت منا مأخذاً، وقعدت مني مقعداً ما كان أبو بكر ليقعده أو ليأخذه، قال فخرج وتركه" (14).
وروى الشعبي:"أن محمد بن أبي بكر دخل على عثمان فأخذ بلحيته فقال: أرسل لحيتي فلم يكن أبوك ليتناولها فأرسلها" (15).
وروى سعيد بن المسيب:"أن محمد أبي بكر دخل على عثمان فأخذ بلحيته، فقال له عثمان رضي الله عنه: أما والله لو رآك أبوك لساءه مكانك مني، فتراخت يده" (16).
فاستحيا محمد من قوله، وأفاق من سكرته، وظهر له خطؤه، فتذمم من ذلك، وغطى وجهه حياءً، ورجع وحاجز دون عثمان يحميه فلم يفد ذلك؛ لأنه كان بعد فوات الأوان، وتمكن أهل الفتنة والأهواء (17) ثم إنه قتل بعد ذلك في خضم هذه الفتنة العظيمة التي كان هو سبباً في إشعالها، وعسى الله أن يكفر عنه بما ناله من أذى وقتل، وبما حصل له من ندم ورجوع إلى الحق.
وذكر الذهبي: "أن محمد بن أبي بكر هُزم من جيش معاوية بن حُديج الكندي فاختفى في بيت لامرأة فدلت عليه، فقال: احفظوني في أبي بكر، فقال معاوية بن حديج: قتلت ثمانية من قومي في دم عثمان وأتركك، فقتله وصيره في بطن حمار وأحرقه" (18).
فعل محمد بن أبي حذيفة:
وأما محمد بن أبي حذيفة فقد كان يتيماً في حُجْر عثمان، وكان عثمان رضي الله عنه والي أهل بيته، ومحتملاً كَلَّهُم، وقيماً عليهم، فسأل عثمان أن يؤمره فاعتذر منه، فألحّ عليه يطلب الإمارة، فقال له عثمان رضي الله عنه:"يابني، لو كنت رضاً لاستعملتك، قال فأْذَنْ لي فأخرج فأطلب الرزق، قال: اذهب حيث شئت، وجهزه من عنده، وحَمَّلَه وأعطاه، وأغدق عليه، فذهب إلى مصر وتغير على عثمان، وحرض الناس على الفتنة؛ لأن عثمان منعه الولاية (19).
ويروى أن كعب الأحبار نصحه فما انتصح؛ فقد ركب معه السفينة فقال محمد بن أبي حذيفة:"يا كعب، كيف تجد نعت سفينتنا هذه في التوراة قال كعب: لست أجد نعت هذه السفينة ولكن أجد في التوراة أنه ينزو في الفتنة رجل يدعى فرخ قريش له سن شاغية فإياك أن تكون ذاك" (20).
وقد قتل أيضاً في تلك الفتنة التي كان أحد مشعليها عفا الله عنا وعنه، ورحمنا وإياه.
قال الذهبي رحمه الله تعالى بعد أن عرض سيرته: "عامة من سعى في دم عثمان قتلوا وعسى القتل خيراً لهم وتمحيصاً" (21).
الفتنة بالدنيا سبب كل فتنة:
¥