ثم فصل هذين النوعين، وقد تركنا نقله لطوله ولما قصدناه من الاختصار، ومن طريف ما ينقل ما اعتذر به الحافظ السبكي عندما طلب منه إكمال المجموع فقال ـ رحمه الله ـ:
" وقد يكون تعرضي لذلك مع قصوري عن مقام هذا الشرح إساءة إليه وجناية مني عليه ".
قال: وأني أنهض بما نهض به وقد أسعف بالتأييد وساعدته المقادير، فقربت منه كل بعيد، قال: ولا شك أن ذلك يحتاج بعد الأهلية إلى ثلاثة أشياء
أحدها: فراغ البال، واتساع الزمان، وكان ـ رحمه الله ـ قد أوتي من ذلك الحظ الأوفى بحيث لم يكن له شاغل عن ذلك من تعيش ولا أهل.
الثاني: جمع الكتب التي يستعان بها على النظر والإطلاع على كلاء العلماء، وكان رحمه الله قد حصل له من ذلك حظ وافر، لسهولة ذلك في بلده في ذلك الوقت.
الثالث: حسن النية، وكثرة الورع والزهد والأعمال الصالحة التي أشرقت أنوارها.
وكان ـ رحمه الله ـ قد اكتال من ذلك بالمكيال الأوفى، قال: فمن تكون اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث أنى يضاهيه أو يدانيه من ليست فيه واحدة منها.
ثم دفع السبكي لإتمامه كمال رغبته في أن يعود عليه بركة صاحبة وما أتمه كذلك حتى أكمله المطيعي ـ رحمه الله ـ على الجميع.
زهده وورعه وعبادته رحمه الله
والزهد هو الرغبة عن الشيء لاستقلاله واستحقار والرغبة فيما هو خير منه، وإنما ينشأ الزهد من اليقين بالآخرة ومعرفة قدر التفاوت بي الدنيا والآخرة، وأن الآخرة خير وأبقى من الدنيا، ولم يكن إمامنا النووي ـ رحمه الله ـ ليغتر بالدنيا وزخارفها وزينتها، وإنما جعل حظه منها كزاد الراكب أسوة بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " مالي وللدنيا إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها "
وقد رضي الإمام النووي بأقل ما يبلغه من مأكل ومشرب وملبس، فكان يأكل الكعك والتين الحوراني الذي يرسله له أبوه، لأنه لا يتكلف وقتا في الطبخ أو الأكل، فكان هذا غالب مطعمه ـ رحمه الله ـ ورضي بلبس المرقع من الثياب وسكنى الأربطة المعدة لطلاب العلم، بحيث كان إذا زاره زائر أوسع له من أمكنة الكتب بوضع بعضها على بعض حتى ويفر للزائر مكانا ولم يدخل الحمام كما ورد عنه، وهي حمامات عامة يسخن فيها الماء، وترك أكل الفاكهة كما سيأتي في بيان ورعه ـ رحمه الله ـ فأي زهد يداني هذا الزهد أو يقاربه، لم يسع لتزوج امرأة حسناء، أو تملك أمة يتسرى بها بل كانت حياته كلها بذل للنصيحة وطلب العلم وتعليم له وتصنيف وعبادة وزهادة، والزهد في النفس هو غاية الزهد وقد كان الإمام النووي ـ رحمه الله ـ يعرض نفسه للتلف في نصح الحكام، وقد قال في رسالته التي وجهها لابن النجار " وأنا بحمد الله ـ تعالى ـ ممن يود القتل في طاعة الله ـ تعالى ـ …"
وقال اليونيني: والذي أظهره وقدمه على أقرانه ومن هو أفقه منه، كثرة زهده في الدنيا، وعظم ديانته وورعه.
أما ورعه رحمه الله:
والورع هو الكف عن المحرمات واجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات، وترك مالا بأس به حذرا مما به بأس.
وقد كان الورع ظاهرا جدا في حياة الإمام النووي، وفقد وصفه السبكي بقوله: ما اجتمع بعد التابعين المجموع اجتمع في النووي، ولا التيسير الذي تيسر له.
وما ذاك إلا لما كان عليه من الورع الثخين، الذي خرب به دنياه جعل دينه معمورا.
ووصف ابن كثير ـ رحمه الله ـ ورعه بقوله: في معرض الثناء عليه، والتورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه ولا قبله بدهر طويل.
فلقد كان من ورعه أنه لا يأكل من فاكهة دمشق بحجة أنها كثيرة الأوقاف والأملاك لمن هو تحت الحجر شرعا، ولا يجوز التصرف في ذلك على وجه الغبطة والمصلحة، ثم المعاملة فيها على وجه المساقاة وفيها اختلاف بين العلماء قال: فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك.
قال السيوطي ـ رحمه الله ـ لقد أتعب نفسه وأرضى ربه وصميره، وإلا فقد كان يعلم أن الأصل في الأشياء الإباحة، حتى يدل الدليل على التحريم، ويفتي بهذا الأصل ويقرره في كتبه كما قال في تسمية النبات المجهول تسميته حيث قال المتولي: يحرم أكله.
قال النووي: الأقرب الموافق للمحكي عن الشافعي الحل.
فكان له في هذه القاعدة الفقهية مندوحة، لو أراد أن يمنع نفسه مما أحب من فاكهة دمشق، وهي حجة له عند ربه ـ إن شاء الله تعالى ـ
¥