تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن المتتبع لحياة العقبي يجدها مليئة بالأحداث الهامة والشائكة في آن واحد، ولعل ذلك ما يوحي بعظمة صاحبها ـ ولا تعظم الهموم إلا مع علو الهمة ـ ومن ذلك قرار العقبي الخروج من المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين التي ناضل فيها منتصرا لمبادئها لسنين طويلة.

ولم يأت في نص الاستقالة ما يفسر بوضوح إقدام العقبي على ما أقدم عليه سوى قوله:" وأؤكد لكل الإخوان أني وقفت هذا الموقف وأنا غير متأثر مطلقا بأي إيعاز من الإيعازات الحكومية ولا قاصدا ـ علم الله وهو العليم بما في الضمائر المطلع على ما في الصدور ـ إلى تملق أية ناحية إدارية ... ولكن شفقتي على البقية من تراث هذه الأمة وحرصي على المصلحة العامة مع تقديري للظروف الحاضرة، كل أولئك حملني على الإضاحة لصوت ضميري فقط وتلبيتي لواجب النداء الإسلامي الإنساني الخطير غير آبه بما قيل وعسى أن يقال"

ولعلنا نحاول أن نستشف من نص الاستعفاء ـ ومن صيرورة حياة العقبي ـ بعضا من مواقف الاختلاف بين العقبي ورفاقه العلماء التي دفعت به إلى الخروج ـ أو بالأحرى ـ التضحية بالخروج من المجلس الإداري للجمعية، مع أن العقبي عاهد نفسه ـ في نص الاستعفاء بمواصلة النضال من أجل مبادئ الجمعية، حيث قال:" هذا مع وعدي لهم بأني سأبقى محتفظا لنفسي بحق العضو العامل في هذه الجمعية التي أنا أول المؤمنين بمبادئها الحق الذي سأبقى عليه ما بقيت، وبقيت المبادئ الخالدة إلى آخر نفس من حياتي"

وأولى طلائع الخلاف بين العقبي وبعض المصلحين نلمسها في العشرينيات منذ عودة العقبي إلى الجزائر من الحجاز، فقد كان الشيخ من الكتاب البارزين في جريدتي الشهاب والمنتقد وهما معا للشيخ ابن باديس في قسنطينة، وكان يكتب مقالاته عن السلفية والسنة والبدعة بأسلوب صريح مدعم بالحجج التي لا تقبل النقض، مبينا بعد الأمة عن دينها تحت وطأة الطرقية، فكانت هذه المقالات تهدم معاقل الطرقية معقلا معقلا، مما جعل بعض مشايخ الطرق ومريديهم وأذنابهم يفزعون إلى الشيخ ابن باديس وإلى والده محمد المصطفى ابن باديس ليعملا شيأ لوقف هذا السيل الجارف عليهم من مقالات الشيخ العقبي، فكتبت الشهاب تقول:" لنا مجتنيات مما تنتجه عقول الكتاب في الكتب والصحف والمجلات نريد أن نفيد الأمة بها، لنا شؤون عالمية نريد أن نطلع الأمة عليها، وهذه اليوم أهم من مسألة إصلاح الزوايا التي أخذت حقها فوجب تركها والاشتغال بما هو أهم منها".

وقرا العقبي ما كتبته الشهاب، وأدرك ضلوع الطرقية وكيدها الآثم فثار ثورة عارمة واعتبر ما نشرته الجريدة ضعف من أهل الحق يؤدي إلى ضعف الحق أمام جحافل الباطل، ثم أعلن مقاطعته للجريدة وأنه سيصدر جريدة تحمل اسم الإصلاح وهو ما تحقق فعلا، واضطر الشيخ ابن باديس إلى السفر إلى بسكرة شخصيا لاسترضاء الشيخ العقبي الذي أصر على موقفه، وساق من الحجج ما اقتنع به بن باديس وجعله يفتح أعمدة الجريدة للعقبي مرة أخرى ليواصل جهاده المقدس على الطرقية الضالة حليفة الاستعمار الفرنسي الصليبي.

ولا يمكن أن نغفل دور البيئة التي نشأ فيها كل من العالمين العقبي وابن باديس، فقد نشأ العقبي في بيئة حجازية خالية من البدع، ولا شك أنه حال عودته إلى الجزائر لم يقبل تلك المظاهر الكهنوتية الشركية التي ابتدعتها الطرق الصوفية تضلل الناس وتبتز أموالهم بها، وتسوقهم سوق الأنعام في صور مجموعات بشرية ساذجة، والأكثر من ذلك أنها تجعلهم يستطيبون العيش تحت حذاء الأجنبي الكافر باعتباره قضاء وقدرا، وأن الله منحهم الحكم في هذا الوطن المنكوب ويجب طاعته مطلقا.

أما ابن باديس فهو ابن قسنطينة العريقة وأكثر اطلاعا وتعرفا على عقلية الجزائريين وظروف عيشهم وطبيعة حياتهم ومستوى علمهم، هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد رأينا ـ مما سبق ـ أن حياة العقبي كانت سلسلة من الهزات والمتابعات والمضايقات سواء في الحجاز أو الجزائر، مضافة إلى مرارة الغربة وحرقة اليتم، وهذا ما لا نجده في حياة ابن باديس الذي تمتع بحياة الحر الطليق، معززا في وطنه وفي كنف عائلته المرموقة، وقد عبر العقبي عن هذا الفارق الذي حز في نفسه بقوله:

لولا الحوادث قد حططن رحالا ** بحماي كنت الشاعر المفضالا

وسموت في طلب الكمال مبرزا ** وتركت خلفي في الحضيض رجالا

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير