و تكرّرت هذه المحاولات،وهُدِّد الشيخ بالسجن في عدة مقابلات مع القضاء الفرنسي،الذي أبقى ملف القضية مفتوحا ليستطيع استغلاله في المناسبات الحرجة.
هكذا و في بداية الحرب العالمية الثانية، أي قبل حدوثها سنة 1938،بدأت فرنسا تجمع صفوفها و تميز أعداءها،في الداخل قبل الخارج،فكان لزاما عليها أن تضمن ولاء الجزائريين لها، قبل خوض الحرب حتى لا يستغل أعداؤها أهالي الجزائر لإحداث شرخ في صفوفها، فرأت -كما قال الأستاذ طاهر فضلاء:"أنّ على جمعية العلماء بمناسبة هذه الظروف الحرجة، أن تبعث برقية باسمها،و باسم المسلمين بالجزائر إلى فرنسا في فرنسا،تعلن فيها و لأهاليها بصفتها حامية الديموقراطية و الحرية في العالم ... !،و تدين فيها الدكتاتورية التي تهدد الحريةَ الدّيموقراطية في العالم"
و لمّا كان الشيخ العقبي هو المؤهل لتسليم هذه البرقية،بحكم ظروفه الخاصة، استُدعي من طرف الإدارة الفرنسية،واُبلغ بمضمون الرسالة و ما تحويه من مقاصد، أبدى موافقة منه على إثبات إمضائه، غير أن الإدارة طلبت منه إمضاء رئيس الجمعية،حتى تصير الوثيقة بمثابة فتوى شرعية توجب على مسلمي الجزائر الوقوف إلى جانب فرنسا في حربها مع دول المحور، و رسالةَ ولاءٍ و خضوع للإدارة الفرنسية الغاصبة الظالمة.
فأزمع الشيخ على عرض المسألة على الإمام ابن باديس، فلمّا عرضها عليه رفض ابتداءً قبولَ الأمر، فلمّا أصرّ عليه اتفقا على عرضها على مجلس الشورى في الجمعية.
فاستدعى الشيخ أعضاء إدارته، و عقدوا مجلسا استثنائيا حضره الجميع،وعُرضت القضية التي أصبحت تُعرف بـ" محنة الرسالة الملعونة أو المشؤومة" على بساط النقاش،وارتفعت الأصوات و تضاربت الأفهام بين مؤيد و معارض،و خرجوا بعد نقاش حاد برفض هذا العرض، وعدم إمضاء الوثيقة، الأمر الذي نتج عنه استقالة الشيخ العقبي عن جمعية العلماء،
وممّا تذكره صفحات التاريخ عن وقائع ذلك الإجتماع أن الشيخ العقبي رحمه الله تعالى كان من بين ما تعلّق به من الحجج و الأسباب التي دفعته إلى التمسك برأيه أن قال:"إنّ لي بضعة من الأبناء أعولهم، وأقوم بخدمتهم" يعني أهله وأولاده، يشير إلى الظغوطات التي تمارسها الإدارة ضده، في حالة ما إذا رفض الإمضاء على الرسالة، فقال له الشيخ ابن باديس:"إذا كان لك أنت بضع من الأولاد،فأنا كل أبناء المسلمين في الجزائر أبنائي "،فانتهى المجلس باستقالة الشيخ من عضوية مجلس الإدارة.
3 - قراءة في الحادثة:
لا يهمنا عرض الحادثة بقدر ما يهمنا اعتبارها و أخذ العبر منها، فأول ما يلفت انتباه المتتبِّع للأحداث،هو الليونة التي تميزت بها سلوكات الشيخ الطيب العقبي في معاملته مع الإدارة (الفرنسية؟)، تحت الظغوطات الممارسة عليه.
فالذي يعرف مواقف هذا الإمام قبل هذه الحادثة،لا يمكن أن يتصور صدور ما يخالفها عنه بعد هذه الحادثة، فالرجل بعدما كان شديدا على الطرقية إلى درجة أنه في العشرينيات رفض الكتابة في جريدة الشهاب،لأن صاحبها ابن باديس رأى و بعد معارك شديدة في الصحف مع الطرقيين، عدم جدواها،فدعا في مقال له إلى الحسنى و رأى أن يشتغل كُتّاب الشهاب بجوانب أخرى في الإصلاح، فأرسل له الشيخ العقبي رسالة نشرتها الشهاب مفادها أنه غير موافق على هذا النّهج،وأنه ابتداء من هذا العدد، لا و لن ينشر مقالاته في الشهاب، حتى تعود إلى منهجها القديم الذي يقضي بفضح الطرقية و بيان جهلهم،
فسافر الشيخ ابن باديس إلى بسكرة ليقنعه على صحة مقصده، غير أنه رفض الرجوع عن رأيه حتى أعاد إمام النهضة فتح ملف الحديث عن الطرقية في شهابه، فكتب له الشيخ العقبي رسالة أو مقالة عنوانها "الآنَ نعم! ".
هذه ميزة الشيخ العقبي يتميز بها،كما قال عنه تلميذه الأستاذ محمد الطاهر فضلاء "لقد عرف الناس جميعا -و العلماءخصوصاً-ميزةً للشيخ العقبي كانت له ديدناً مألوفا، يتمسك به تمسك المستميت، وهي صلابته في الحق،أو فيما هو موقن بأنه الحق،إلى درجة الحدّة، وكان الجميع يجلونه على هذه الميزة، و يقدرونه في كثير من الإجلال و الإعجاب".اهـ
وهذا مايفسر تمسكه الشديد بمواقفه، وعلى هذا نحمل كلّما صدر عنه من مواقف سلبية لشدة مزاجه و قوة شكيمته.
¥