وإنما أخفيت النون مع هذه الحروف لأنها حروف الفم، والنون أيضا لها مخرج من الفم .. واستدل ا. د/غانم أيضا قائلا: إن القول بأن (النون المخفاة تميل إلي مخرج الصوت الذي بعدها) لا يتضح منه المقصود بهذا الميل ولا مقداره. بينما يقرر علماء التجويد أن معتمد اللسان في الفم عند النطق بالنون المخفاة ينتقل إلي مخرج صوت الذي بعدها، فهو ليس مجرد ميل، إنما انتقال إلي مخرج الصوت التالي كما يحدث عند الإدغام، إلا ان الغنة باقية في الإخفاء بينما هي تزول في الإدغام. يؤكد ذلك ما نسمعه من نطق مجيدي قراءة القرآن الكريم اليوم.
وأقوال علماء التجويد التي نقلنا بعضها قبل قليل، ونضيف إلي ذلك قول مكي:" الغنة التي في الحرف المخفي هي النون الخفية، وذلك أن النون الساكنة مخرجها من طرف اللسان وأطراف الثنايا ومعها غنة تخرج من الخياشيم فإذا خفيت لأجل ما بعدها زال مع الخفاء ما كان يخرج من طرف اللسان منها وبقي ما كان يخرج من الخياشيم ظاهرا " الكشف 1/ 166
إن الدارس حين يتأمل نطق مثل " من قال " و"ومن كان " يجد معتمد النون قد انتقل من طرف اللسان إليي أقصاه حيث يعتمد للصوت التالي للنون. وكذلك الحال في مثل (إن جاء ـ وإن شاء) فإن معتمد اللسان لصوت النون ينتقل غلي مخرج الجيم والشين ومثل ذلك يحدث في مثل (من تاب ـ ومن سأل ـ ومن فعل) واللسان يعتمد للنون وللصوت الذي بعدها في كل ذلك اعتماده واحدة، إلا أن الجزء الأول منها مصحوب بغنة هي بقية النون بينما الجزء الأخير من الاعتماد هو للصوت الذي يلي النون خاليا من الغنة." ا. هـ بتصرف (الدراسات الصوتية عند علماء التجويد) صـ378:380
وتعقبه د/ محمد حسن جبل في كتابه (تحقيات في التلقي والأداء) قائلا:" أولا القول بأن النون المخفاة إنما تكون غنة في الخياشيم فحسب ـ ونقل قول اللغويين ـ (ثم ذكر د/ جبل أقوال سيبويه والمبرد وابن السراج وأبي حيان وغيرهم من اللغويين ـ والأقوال متشابهة وقريبة ونكتفي بقول سيبويه ـ:" وتكون النون مع سائر حروف الفم حرفا خفيا مخرجه من الخياشيم وذلك أنها من حروف الفم وأصل الإدغام لحروف الفم لأنها أكثر الحروف فلما وصلوا إلى أن يكون لها مخرج من غير الفم كان أخف عليهم ألا يستعملوا ألسنتهم إلا مرة واحدة وكان العلم بها أنها نون من ذلك الموضوع كالعلم بها وهى من الفم لأنه ليس حرف يخرج من ذلك الموضوع غيرها فاختاروا الخفة لذلك إذ لم يكن لبس وكان أصل الإدغام وكثرة الحروف للفم وذلك قولك: من كان .... ا. هـ 4/ 454
.. ثم عقب قائلا:" والمهم هنا أنه لم يذكر أحد من هؤلاء أو أولئك أن النون ينتقل مخرجها ـ عند الإخفاء ـ إلي مخرج الحرف الذي يليها كما أن أحدا منهم لم يذكر أن اللسان (أو الفم كما يعبرون أحيانا) عملا في إخراج النون المخفاة " صـ58
ثم ذكر د/ جبل أقوال علماء التجويد والقراءات ـ ونأخذ قول مكي من القراء ـ:" قال مكي في الرعاية: " ......... فدل ذلك أن مخرج الغنة من الخيشوم ألا ترى أنك لو قلت: عنك ومنك فأمسكت أنفك عند اللفظ بذلك لتغير لفظ النون والتنوين لأنك قد حلت ـ بإمساك أنفك ـ بين الحرف ومخرجه فعلمت من ذلك أن مخرج النون الخفيفة التي هي غنة في النون والتنوين من الخياشيم. ا. هـ 114
وقال في قول عبد الوهاب القرطبي معلقا:
1.أنه لم يصرح أبدا بانتقال مخرج النون إلي مخرج الحرف التالي لها، وإنما عبر " باتصال النون بمخارج هذه الحروف "
2.في كلام عبد الوهاب القرطبي أيضا تصريح بأنه لا عمل للسان في إخراج النون المخفاة وعبارته " ومعني خفائها هو ... وزوالها عن طرف طرف اللسان وخروج الصوت من الأنف من غير معالجة بالفم " فيه إخراج النون من غير عمل للسان.
3 .... مقصوده باتصال النون بمخارج هذه الحروف هو تزامن نطقها مع نطق غنة النون أو التنوين من الأنف ... لأن الصوت إذا جري أمكن اتصال الحرفين " أي أمكن نطق الحرف التالي قبل أن تنتهي غنة النون فيتزامنان جزئيا والتزامن اتصال بلا شك
4.الإمام عبد الوهاب القرطبي إمام مسبوق بأئمة كبار. وقد قالوا بغير قوله فلا علينا أن نرد قوله، وأن نرد فهم د/ غانم ـ رغم رصانة مباحثه عادة ـ لكن كل يؤخذ منه ويرد عليه.
5.احتجاجه ب" ما نسمعه من مجيدي القرآن الكريم اليوم "
والرد عليه أننا نسمع ما يقولونه ولا نري كيفية إخراجهم للنون المخفاة
ثم ذكر أدلة كثيرة أخذنا أهمها بتصرف من كتاب (تحقيات في التلقي والأداء) صـ 47:70
أقول: والذي أميل إليه قول د/ غانم في هذه المسألة لعدة أمور منها:
ـ أن كلام القرطبي ليس مخالفا لمن سبقوه، ولكنه مبين له وموضح فقد زاد علي كلامهم قضية الانتقال أو الميل فلايرد قوله بمن سبقوه لعدم الخلف بل زيادة في التوضيح.
ـ ومنها: أن ما نسمعه من القراء يوافق قول د/ غانم حيث يجعلون مع غنة الإخفاء فيها رائحة الحرف الذي بعد النون أو التنوين في مثل (من ذا، من فوقهم، من شاء، من جاء من ظلم ... ) وقول د/ جبل: أننا نسمع ما يقولونه ولا نري كيفية إخراجهم للنون المخفاة " كلام غير مقبول لأن هذا النطق لا يتحقق لو جعلنا الغنة كلها من الخياشيم، ولو جربنا في مثل " من ذا " تجد اللسان يقارب الاتصال بمخرج الذال ولو خرجت من الخياشيم فقط لم يتحقق هذا النطق. والله أعلم
ـ أما قولهم " لا عمل للسان " فقد أجاد في شرحها صاحب كتاب " نهاية القول المفيد " حيث قال:" لا يقال لابد من عمل اللسان في النون والشفتين فى الميم مطلقا حتى في حالة الإخفاء والإدغام بغنة وكذا للخيشوم عمل حتى في حالة التحريك والإظهار فلم هذا التخصيص؟ لأنهم نظروا للأغلب فحكموا له بأنه المخرج فلما كان الأغلب فى حالة إخفائهما أو إدغامهما بغنة جعلوه مخرجهما حينئذ وإن عمل اللسان والشفتان أيضا.
ولما كان الأغلب في حالة التحرك والإظهار عمل اللسان والشفتين جعلوهما المخرج وإن عمل الخيشوم حينئذ، أيضا أفاد بعضهم عن العلامة الشبراملسي مع بعض زيادة." ا. هـ
ومع هذا فالخلاف في المسألة خلاف معتبر وهناك بعض الشيوخ يخرجون الغنة من الأنف فقط، والبعض يخرج مع الانتقال كما قدمنا.
يتبع بإذن الله
¥