فقولها: (إلاّ وأنا عنده صلّى الله عليه وسلّم)، تعني أنّه قد بنى بها، ولا خلاف بين العلماء أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّما بنى بعائشة بالمدينة.
ب) بل كيف يمكن أن يقال بمكّيتها، وقد عُدّت آية منها من الآيات المختلف في كونها آخر ما نزل؟ فقد روى البخاري ومسلم عَنْ الْبَرَاءِ ابن عازب رضي الله عته قَالَ: (آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}).
ج) ثمّ من تبيّن أحكامها علم أنهّا مدنيّة بلا شكّ.
وأمّا من قال إنّ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} مكّي حيث وقع، فليس بصحيح على إطلاقه، فإنّ البقرة مدنيّة، وفيها قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} في موضعين، وسورة الحجّ مدنيّة كلّها- على الصّحيح- وقد ابتدأت بـ:] يَا أَيُّهَا النََاسُ [، وختمت بـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}.
المبحث الثالث: في سبب تسميتها بهذا الاسم.
من المقرّر أنّ اسم السّورة لا بدّ أن يكون موافقا لجانب عظيم من مقاصد السّورة، ومن أهمّ مقاصد السّورة الاهتمام بشأن النّساء، وبيان كثير من الأحكام المتعلّقة بهنّ:
1 - ففي النّكاح: ذكر الله تعالى ما يجب لهنّ من الصّداق، وأنّه حقّ لا يسقطه الفراق.
وما يجب عليها تجاه زوجها من الطّاعة والإحسان، وما يحقّ عليها حال النّشوز والعصيان.
وما يجب عليها ولها حال تعدّد الزّوجات.
وما يحرم عليها من النّكاح، وما تعاقب به حال السّحاق أو السّفاح، وهل يحلّ لها-إن كانت أمة-أن تنكح حرّا.
2 - وفي الرّضاع: باب كبير وعظيم سببه النّساء.
3 - وفي الميراث: أثبت الله لهنّ ما لم تثبته شريعة من قبل.
4 - وفي باب الوصاية على اليتيمة حفظ لها حقّها.
فهذا كلّه كافٍ لأن تُسمّى السّورة بـ: النّساء.
بل رأينا السّلف أطلقوا هذا الاسم على سورتين أخريين لمجرّد أن ذكر فيهما بعض أحكام النّساء:
الأولى: سورة الطّلاق، والثّانية: سورة البقرة.
روى البخاري عن أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عته-وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عته جَالِسٌ عِنْدَهُ- فَقَالَ: أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عته: آخِرُ الْأَجَلَيْنِ. قُلْتُ أَنَا: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عته: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي-يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ-. فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عته غُلَامَهُ كُرَيْبًا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ: قُتِلَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى، فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَخُطِبَتْ، فَأَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَكَانَ أَبُو السَّنَابِلِ فِيمَنْ خَطَبَهَا.
فسألوا مَالِكَ بْنَ عَامِرٍ، فَسَأَلْتُهُ فَحدّثهم حَدِيثَ سُبَيْعَةَ، فَقِيل له: هَلْ سَمِعْتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِيهَا شَيْئًا؟ فَقَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلَا تَجْعَلُونَ عَلَيْهَا الرُّخْصَةَ؟! لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
فهو يقصد رضي الله عته يالنّساء القصرى (سورة الطّلاق) وبالنّساء الطّولى (سورة البقرة)، أي: سورة الطّلاق بعد سورة البقرة، فمن البقرة قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: من الآية 234] ومن الطّلاق قوله عزّ وجلّ: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ} [الطلاق: من الآية 4] (2)
الشّاهد من هذا كلّه أنّ سورتين أخريين سمّيتا بسورة النّساء لِما ظهر فيهما من اعتناء بأحكام النّساء، فما بالك بسورة أثبتت للنّساء ما أنكره العرب والعجم.
المبحث الرّابع: هل ورد شيء في فضلها؟
¥