وذلك لعمري موضع إشكال على الجهال، وليته إذ ذهب إلى الاقتصار على بعض قراء الأمصار، واجتهد في الاختيار جعلهم أقل من سبعة أو أكثر، فكان يزيل بذلك بعض الشبهة الداخلة على الأغمار، نرغب إلى الله عز وجل التجاوز عن فعله الذي اعتمده وحسن المجازاة على ما قصده، فإنه لم يرد إلا الخير والفضل، لكن خفي عليه ما يدخل بذلك على أهل الضعف والجهل، والله المستعان أهـ (9). وفي ذلك يقول الجعبري في قصيدته المسماة " نهج الدماثة ":
وأغفل ذوا التسبيع مُبْهَم قصده فزلَّ به الجمُّ الغفير فجُهِّلا
وناقضه فيه، ولو صح لاقتدى وكم حاذق قال المسبع أخْطَلا (10)
قال ابن الجزري: لقد صدق الجعبري رحمه الله فإنّ هذه الشبهة قد استحكمت عند كثير من العوام حتى لو سمع أحد قراءة لغير هؤلاء السبعة أو من غير هذين الراويين لسماها شاذة، ولعلها تكون مثلها أو أقوى أهـ
إلا أنه عاد فاعتذر عن ابن مجاهد بقوله: والحق أنه لا ينبغي هذا القول، وابن مجاهد اجتهد في جمعه فذكر ما وصله على قدر روايته، فإنه رحمه الله لم تكن له رحلة واسعة كغيره ممن كان في عصره (11).
وقد كان أول من انتقد ابن مجاهد في هذا التسبيع تلميذه ابن أبي هاشم فقال في كتابه الكبير البيان (12) (في سياق تضعيف قراءة ابن عامر): لولا أن أبا بكر شيخنا جعله سابعاً لأئمة القراءة فاقتدينا بفعله لأنه لم يزل موفقاً، فاتبعنا أثره واهتدينا بهديه؛ لما كان إسناد قراءته مرضياً، ولكان أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش بذلك أولى منه ... أهـ (13).
والحق أنه كان لهؤلاء السبعة مزية على غيرهم، ولم يكن ابن مجاهد أول من أعلن ذلك وأذاعه، فإننا نجد في كتب السابقين لأبي بكر بن مجاهد من المصنفين في القراءات كأبي عبيد وابن جرير رحمهما الله، وهما من أوائل من صنف في جمع القراءات وذكرا في كتابيهما أكثر من عشرين قراءة، نجد أن هؤلاء السبعة من صميم اختيارهم، مع آخرين سواهم. فالسبعة محل اتفاق عند أغلب المصنفين في جمع القراءات، وإن وجد من أهملهم، لكنه قليل.
قال مكي بن أبي طالب: قد ذكر الناس من الأئمة في كتبهم أكثر من سبعين ممن هو أعلى رتبة وأجل قدراً من هؤلاء السبعة، على أنه قد ترك جماعة من العلماء في كتبهم في القراءات ذكر بعض هؤلاء السبعة، واطرحهم، قد ترك أبو حاتم وغيره ذكر حمزة والكسائي وابن عامر، وزاد نحو عشرين من الأئمة فمن فوق هؤلاء السبعة، وكذلك زاد الطبري في كتاب القراءات له على هؤلاء السبعة نحو خمسة عشر رجلاً، وكذلك فعل أبو عبيد وإسماعيل القاضي (14).
وبين يديَّ نص من كتاب القراءات للإمام الكبير أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى المتوفى سنة 224 هـ أي قبل وجود ابن مجاهد بزمن، يُبيِّن فيه كيف كان الأمر قبل القراء السبعة وإلى زمانهم، ويبين فيه أيضاً مدى انتشار قراءات هؤلاء السبعة دون غيرهم، بحيث يجزم الباحث أن ابن مجاهد لو لم يُسبِّع هؤلاء السبعة لكانت الأمة سبعتهم، وانتهت إليهم، فإنهم قراؤها وإن انضاف إليهم من سواهم.
قال في فصل (تسمية من نقل عنهم شيء من وجوه القراءات من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أكابر أئمة المسلمين): هذه تسمية أهل القرآن من السلف على منازلهم وتسميتهم وآرائهم:
فمما نبدأ بذكره في كتابنا هذا سيد المرسلين وإمام المتقين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أُنزل عليه القرآن، ثم المهاجرون والأنصار وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من حُفظ عنه منهم في القراءة شيء، وإن كان ذلك حرفاً واحداً فما فوقه.
قال: فمن المهاجرين أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب (15) وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعمرو بن العاص، وأبو هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن الزبير، وعبدالله بن السائب قارئ مكة.
¥