جمع المصاحف العثمانية.
قلت: وإن معرفة أصحاب كل طبقة من الطبقات الثلاث لخطوة في رحلة الألف ميل تقرب الباحثين من إيقاف ظاهرة تعدد الروايات والطرق ليقل عددها كلما ضبطنا الأداء الذي تلقاه أصحاب الطبقة الثالثة عن الطبقة الثانتة، ولنقترب أكثر كلما ضبطنا الأداء الذي تلقاه أصحاب الطبقة الثانية عن الطبقة الأولى ولنقرأ القرآن طريا كما أنزل على النبي الأمي ? حين نضبط الأداء الذي قرأ به الصحابة الذين رافقوا المصاحف العثمانية إلى الأمصار، ذلك الأداء المنزل الخالي من القياس ومن اللهجات التي تعددت بسببها الروايات وأدرج فيها من القياس ما لا كاد يحصى رغم تواتر القرآن بلسان عربي مبين غير ذي عوج وغير ذي حاجة إلى اللهجات والقياس في القراءات.
المبحث الثاني: مناقشة القول بترادف لفظي القرآن والقراءات:
إن القرآن في كلامنا لفظ مرادف للكتاب المنزل على النبي الأمي ?، لدلالة كل منهما على ما بين دفتي المصاحف العثمانية أي على ما تضمنته العرضتان الأخيرتان، وهو الكتاب أي المكتوب، وهو القرآن أي المقروء، ولا أتجاوز هذا الإطلاق في بحث يدور حول القراءات، إذ لكل من لفظي القرآن والكتاب مدلول خاص به لا يقع على الآخر كما بينته في مقدمة تفسيري " من تفصيل الكتاب وبيان القرآن ".
أما القراءات ـ كما تصورتها ـ فهي أداء تقرأ به أحرف الخلاف (أقل من واحد على الألف) حالتي الوصل والوقف، إذ لا علاقة بين القراءات وبين المتفق عليه من ألفاظ القرآن ومن أمثلته:
ـ ? والتين والزيتون وطور سينين ?
ـ ? قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني ? يونس 68 لم يختلف في رسمها وأدائها بغير واو في أولها على غير نسق قوله ? وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه ? البقرة 116 المختلف فيه بين المصاحف العثمانية إذ هو بغير واو في المصحف الشامي وبالواو في غيره.
ـ ? كن فيكون الحق من ربك ? آل عمران 59 - 60 لم يختلف في قراءته برفع النون في المضارع الواقع في جواب الأمر.
ـ ? ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ? سبأ 3 لم يختلف في قراءته بالرفع فيهما.
ـ ? على صلاتهم يحافظون ? الأنعام 92، ? على صلاتهم يحافظون ? المعارج 34 بالإفراد فيهما.
وإنما نشأت القراءات أول ما نشأت في القرن الثاني الهجري أي نشأت باجتهاد من القراء والرواة والطرق عنهم لتفسير مسألتين اثنتين:
1. الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن.
2. الاختلاف في رسم المصاحف العثمانية.
إن القراءات لتعنى فقط بأحرف أي ألفاظ قليلة جدا ـ إذا ما قورنت بالمتفق عليه ـ وقع في رسمها وفي النطق بها أي في أدائها خلاف قليل بين المصاحف العثمانية ثم خلاف آخر يدور حول تسهيل الهمز وتحقيقها وحول الإمالة بنوعيها والفتح وحول الإدغام والإظهار وحول الترقيق والتغليظ زاده الرواة وطرقهم إلى القرن الرابع الهجري.
المبحث الثالث: أقسام القراءات
وتنقسم القراءات أي أداء الكلمات المختلف فيها أو ما يعرف بأحرف الخلاف ـ حسب تتبعي ـ إلى خمسة أقسام هي:
القسم الأول: أداء بأحرف الخلاف منصوص أي أثبته المصنفون الأولون في كتبهم من أمثال يحيى اليزيدي (ت 202 هـ) والدوري أول من جمع القراءات (ت 246 هـ).
ويعتبر هذا القسم أعلى درجة من حيث الصحة باجتماع النص والأداء به.
القسم الثاني: أداء بأحرف الخلاف غير منصوص في كتب الرواة وطرقهم القريبة منهم كالموصوفين في القسم الأول، ولكنه أداء قرأ به طرق الرواة على شيوخهم وسماع سمعوه منهم وهو الأكثر من أحرف الخلاف قبل ثورة الداني (ت 444 هـ) الذي جمع في كتابه جامع البيان أكثر من خمسمائة طريق عن السبعة، والهذلي (ت 465 هـ) الذي جمع في كتابه الكامل خمسين قراءة وألفا وأربعمائة وتسعة وخمسين رواية وطريقا، وأبي معشر الطبري (ت 478 هـ) الذي جمع في كتابه سوق العروس وألفا وخمسمائة وخمسين رواية وطريقا، وابن الجزري (ت 833 هـ) الذي جمع في كتابه النشر في القراءات العشر أكثر من ألف طريق، فهؤلاء وأمثالهم قد دوّنوا السماع غير المنصوص عن الرواة وطرقهم وحفظوه في كتبهم فأضحى السماع الذي تلقوه عن شيوخهم لمن جاء بعدهم من المقلدين كالمنصوص من الأداء بأحرف الخلاف ولكنه لمن خبر علم تحرير القراءات وطرقها يحتاج إلى تصفية وتنقية تميّز الأداء المنصوص وتميّز الأداء الصحيح غير
¥