قال ابن الجزري في النشر (1/ 9) " ثم إن القراء بعد هؤلاء المذكورين كثروا وتفرقوا في البلاد وانتشروا وخلفهم أمم بعد أمم وعرفت طبقاتهم واختلفت صفاتهم فكان منهم المتقن للتلاوة المشهور بالرواية والدراية ومنهم المقصّر على وصف من هذه الأوصاف وكثر بينهم لذلك الاختلاف وقلّ الضبط واتسع الخرق وكاد الباطل يلتبس بالحق فقام جهابذة علماء الأمة وصناديد الأئمة فبالغوا في الاجتهاد وبينوا الحق المراد وجمعوا الحروف والقراءات وعزوا الوجوه والروايات وميزوا بين المشهور والشاذ والصحيح والفاذ بأصول أصّلوها وأركان فصّلوها وها نحن نشير إليها ونعوّل كما عوّلوا عليها فنقول: كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها "اهـ بلفظه.
قلت: وخلص بعد ذلك ابن الجزري إلى اعتبار خلو القراءة من أحد هذه الأركان الثلاثة عند أئمة التدوين منذ القرن الثالث دليلا قويا لوصفها بالشذوذ يعني عن أداء المصاحف العثمانية.
وكانت هذه الأركان ميزانا وضعه المصنفون الأوائل الذين كانوا يجمعون ما وصل إليهم من الأداء لحفظ القراءات والروايات وضابطا لقبول انشطارها وتعدّدها إذ كانوا يكتفون بصحة السند إلى أحد المصنفين أو أئمة القراءات ولا يستطيع أحد رفع كل خلاف من قبيل اللهجات في القراءات إلى النبي ?.
ويعني الركن الأول أن ابن الجزري قد أصبح مرجعا لجميع الدارسين والباحثين والمتخصصين في علم القراءات لانقطاع أداء ما لم تتضمنه طيبة النشر والله أعلم.
ولعل مما يستبينه الباحثون أن ابن الجزري نفسه لم يوظف الأركان الثلاثة بل لم يوظفها الشاطبي ولا الداني قبله وإنما كانت هذه الأركان الثلاثة بمثابة الفلسفة الجدلية التي يبررون بها إدراج اللهجات والقياس في القراءات.
ولا يعني تضمن القراءات الشذوذ أنها متواترة فيما لا شذوذ فيه فهيهات أن يكون الأمر كذلك إذ اعترف أئمة القراءات بعدم تواترها ودافعوا عن هذه الحقيقة بدافع الدفاع عن تعدد الروايات والقراءات لا غير.
قال ابن الجزري في النشر (1/ 13) "وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف فيه بصحة السند وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن وهذا مما لا يخفى ما فيه ... وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء السبعة وغيرهم" اهـ
قلت: وهكذا تخلى ابن الجزري ومن سبقه عن ركن التواتر حفاظا على كثير من الأداء في القراءات السبع والعشر أي بدافع الحرص على تعدد الروايات والقراءات وليس لأجل حفظ القرآن المحفوظ المتواتر قبل نشأة القراءات وبعد انقراضها لو انقرضت.
المبحث السادس
إثبات تواتر القرآن دون الحاجة على اللهجات والقياس في القراءات
إن الباحثين منذ نشأة علم القراءات ليرددون كلمة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميدان، ألا وهي قولهم " إن القرآن لمتواتر جملة وتفصيلا منذ نزوله إلى يومنا هذا ولا يزال كذلك إلى أن يرفع "، غير أن المصنفين من طرق الرواة والباحثين المتخصصين منذ عصر ابن الجزري إلى يومنا هذا لم يتجاوزوا هذا القول إلى إثباته على أرض الواقع في كل أداء تضمنته القراءات.
وجاء بحثي هذا محاولة متواضعة من باحث قاصر لإثبات تواتر القرآن جملة وتفصيلا كلمة كلمة وحرفا حرفا دون الحاجة إلى خلاف اللهجات كالإدغام بنوعيه والتسهيل بأنواعه ونوعي الإمالة والإشمام والروم ...
ودون الحاجة إلى الخلاف الأدائي الذي لا علاقة له بالمعنى مثل وجهي يحسب وهو وهي المسبوقة بواو أو فاء أو لام ونحوها ومثل الفتح والإسكان في ياءات الإضافة المختلف فيهن والحذف والإثبات في الزوائد المختلف فيهن، ومثل وجهي ? القدس ? و ? أكل ? و ? خطوات ? و ? الملائكة اسجدوا ? ومثل تعدد الأداء في قوله ? وجبريل وميكال ? و ? أرجه ? في الأعراف 112 والشعراء 36.
محاولة تتمسك بكل خلاف معنوي مثل ? فتنوا ? النحل 110 و ? وأرجلكم ? المائدة 6 و ? يطهرن ? البقرة 222 و ? ترجعون ? بمعنى البعث، وكقراءات ? وأن يظهر في الأرض الفساد ? غافر 26 وشبهه.
¥