وقد كان الجمع بين القراءات منهجا متبعا في عصر ابن الجزري وقبله، وليس من باب العبث أن ابن الجزري قد ذكر في الطيبة فصلا عن جمع القراءات، وابتكر هو نفسه طريقة تسهل هذا الجمع، وفي كل ذلك إشارة إلى أن تسهيل الجمع بين القراءات كان من أهداف نظم الطيبة.
الهدف الثاني:
هو تنظيم الزيادات التي أتى بها الشاطبي؛ فالشاطبي قد نظم التيسير، لكنه زاد عليه زيادات أو "فوائد"، كما يقول (البيتين: 68 - 69):
وفي يسرها التيسير رمت اختصاره=فأجنت بعون الله منه مؤملا
وألفافها زادت بنشر فوائد=فلفت حياء وجهها أن تفضلا
لكن الشاطبي لم يتخذ منهجا موحدا لهذه الزيادات؛ فقد يزيد خلافا في موضع، ولا يزيد نظيره في موضع آخر، وهنا لاحظ ابن الجزري هذا النقص فحاول أن ينظم هذه الزيادات؛ فجعل الشاطبية أساس الطيبة، ولكنه قام بتنظيم هذه الزيادات فجعلها من طرق معينة، واستوعب جميع زيادات هذه الطرق؛ فطريق الشاطبية لدوري الكسائي مثلا هي طريق النصيبي؛ لكن الشاطبي والداني ذكرا زيادات من الطريق الأخرى للدوري وهي طريق الضرير؛ فذكرا إمالة يواري وأواري كما يقول الشاطبي (في البيت: 329):
يواري أواري في العقود بخلفه ...
وقد اعترض ابن الجزري على صنيع الشاطبي والداني، وتعجب لماذا لم يعتمدا منهجا موحدا في الزيادات ولماذا خصا هذه الكلمة بالذكر وحدها دون جميع ما تختلف فيه الطريقان، كما يقول (2/ 39): "وأما ما ذكره الشاطبي رحمه الله ليوارى وأوراى في المائدة فلا أعلم له وجها سوى أنه تبع صاحب التيسير حيث قال: "وروى أبو الفارس عن أبي طاهر عن أبي عثمان سعيد بن عبد الرحيم الضرير عن أبي عمر عن الكسائي أنه أمال يواري وفأواري في الحرفين في المائدة ولم يروه غيره" قال: "وبذلك أخذه - يعني أبا طاهر - من هذا الطريق وغيره ومن طريق ابن مجاهد بالفتح" انتهى. وهو حكاية أراد بها الفائدة على عادته؛ وإن لا فأي تعلق لطريق أبي عثمان الضرير بطريق التيسير؟! ولو أراد ذكر طريق أبي عثمان عن الدوري لذكرها في أسانيده ولم يذكر طريق النصيبي، ولو ذكرها لاحتاج أن يذكر جميع خلافه نحو إمالته الصاد من النصارى والتاء من اليتامى وغير ذلك من ما يأتي، ولذكر إدغامه النون الساكنة والتنوين في الياء حيث وقع في القرآن". وتعجب أيضا من زيادة الشاطبي على طريق التيسير في مسألة ويبصط وفي الخلق بصطة لابن ذكوان (النشر: 2/ 229): "ولم يكن وجه السين فيهما عن الأخفش إلا في ما ذكرته، ولم يقع ذلك للداني تلاوة، والعجب كيف عول عليه الشاطبي ولم يكن من طرقه ولا من طرق التيسير، وعدل عن طريق النقاش التي لم يذكر في التيسير سواها، وهذا الموضع من ما خرج فيه عن التيسير وطرقه؛ فليعلم ولينبه عليه".
وهكذا أراد ابن الجزري أن يُنَظِّم هذه الزيادات ويجعلها من طرق محددة؛ فذكر مثلا جميع الخلافات بين طريق النصيبي وطريق الضرير عن دوري الكسائي، ولم يقتصر على كلمتي: "يواري" و"فأواري" كما فعل الشاطبي، فإذا كان الطالب يحفظ متن الشاطبية ثم درس الطيبة، فإنه سيلاحظ ما زادته الطيبة على الشاطبية، وسيعرف إجمالا أن هذه الزيادات هي من الطرق المذكورة في النشر.
وقد أشار ابن الجزري إلى ذلك حين وصف الطيبة بأنها لا تغني عن الشاطبية وإنما هي تكملة لها، كما يقول (في البيت: 56):
ولا أقول إنها قد فضلت=حرز الأماني بل به قد كملت
وأشار إلى ذلك أيضا حين أسس طريقته في الرمز على رموز الشاطبية؛ لأن الطيبة لا تغني عنها وإنما هي تكملة لها، كما يقول (في البيت: 54):
وكل ذا اتبعت فيه الشاطبي=ليسهل استحضار كل طالب
ـ[ضيف الله الشمراني]ــــــــ[15 Jul 2010, 05:36 ص]ـ
جزاك الله خيرا فضيلة الدكتور أحمد كوري على هذه الإثارة العلمية.
ألا يمكن أن يقال إن ابن الجزري ـ رحمه الله ـ جعل الطيبة معتمدة على النشر، وذلك لكثرة الطرق والأوجه، فلا يستطيع أن يبين كل ذلك في النظم.
وثمت إشكال هنا يعرضه بعض الفضلاء، ومفاده أن المدة التي قرئ فيها بمضمن الطيبة بين ابن الجزري والإزميري بماذا كان يُقرأ؟
الجواب: أحد أمرين:
الأول: أن يقال: إنهم كانوا يأخذون التحريرات مشافهة، وهذا بعيد؛ لكثرتها وصعوبتها ودقتها، ولو كانوا يقرؤون بها لدونوها قطعا، على عادة العلماء في تدوين العلم؛ للحفاظ عليه من الضياع.
الثاني: أنهم كانوا يأخذون بظاهر النظم، مع الاستناد إلى ما نبه عليه في النشر.
وفي الحقيقة أقول بعد طول تأمل ونظر خال من التقليد والتعصب: ثمت أمور كثيرة مشكلة في هذا العلم، لابد أن يسارع المتخصصون لحلها بطريقة علمية، وهذا ظاهر لكل منصف متجرد.
أسأل الله أن يفتح على قلوبنا، وأن يبصرنا بعيوبنا.
والله ولي التوفيق.
ـ[طه محمد عبدالرحمن]ــــــــ[15 Jul 2010, 01:39 م]ـ
بارك الله فيك على هذا البحث القيم.
الثاني: أنهم كانوا يأخذون بظاهر النظم، مع الاستناد إلى ما نبه عليه في النشر.
أظن و الله أعلم أن الأمر كذلك و هذا ما اهتدى إليه الشيخ إيهاب فكري حفظه الله بعد طول تأمل ـ كما ذكره في تقريب الطيبة ـ
و أقول: لو كان من مقاصد نظم الطيبة أن يكون الطالب الذي يحفظها و يقرأ بمضمنها مُلِمّاً بالتحريرات كما هي عليه اليوم و التي تصل إلى مئات الأبيات لنبه عليه الإمام ابن الجزري رحمه الله و أفرد له بابا كما صنع في باب "إفراد القراءات و جمعها".
و لكنه ذكر بعض التحريرات التي لا يستغني حافظ الطيبة مثل تحرير الإدغام الكبير لأبي عمرو و امتناعه على وجه المد و الهمز [لكن بوجه الهمز و المد امنعا].
و هنا سؤال:
هل هذه التحريرات البسيطة التي ذكرها في أثناء الطيبة هي ما عناه بقوله [و ضعف ضعفه سوى التحرير]؟
¥