تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ونجد الجعبري في شرحه للشاطبية يختار قراءة أيضا من بين القراءات السبع بدون أن يلتزم فيها بقراءة محددة منها، ويقول عن اختياره (كنز المعاني للجعبري: 2/ 25): "ومضيت على اختياري من القراءات، غير مقلد أحدا من أرباب الاختيارات، ذاكرا جهة الترجيح، وهو الأفصح من الفصيح".

وهذا من مظاهر تيسير القرآن؛ قال الإمام أبو الفضل الرازي (كما نقله عنه النشر: 1/ 43 – 44): "وإني لم أقتف أثرهم تثمينا في التصنيف أو تعشيرا أو تفريدا إلا لإزالة ما ذكرته من الشبهة، وليعلم أن ليس المراعي في الأحرف السبعة المنزلة عدد من الرجال دون آخرين، ولا الأزمنة ولا الأمكنة، وأنه لو اجتمع عدد لا يحصى من الأمة فاختار كل واحد منهم حروفا بخلاف صاحبه وجرد طريقا في القراءة على حدة في أي مكان كان وفي أوان أراد بعد الأئمة الماضين في ذلك بعد أن كان ذلك المختار بما اختاره من الحروف بشرط الاختيار، لما كان بذلك خارجا عن الأحرف السبعة المنزلة بل فيها متسع إلى يوم القيامة".

لكن بعد ابن مجاهد "مسبع السبعة" بدأ المقرئون يكتفون بحفظ اختيارات السلف ويعزفون عن إنشاء اختيارات جديدة، فابن مجاهد نفسه لم يختر، ولعل ذلك كان منهم سدا للذريعة وخوفا من أن يؤدي التوسع في الاختيار إلى القراءة بما لم ينزل، وبما لم يصح من القراءات، وقد وقع بعض ذلك؛ فالإمام الهذلي مثلا ربما يختار في كامله بعض القراءات التي لم يصح سندها، فلعل عزوف جمهور القراء المتأخرين عن الاختيار من القراءات المتواترة كان كعزوف جمهور الفقهاء والأصوليين عن الاجتهاد بعد عصر السلف سدا للذريعة وخوفا من الوقوع في البدعة ومخالفة الإجماع، كما يقول ابن خلدون في المقدمة: "ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، ودرس المقلدون لمن سواهم، وسد الناس باب الخلاف وطرقه؛ لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم، ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله، ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه، فصرحوا بالعجز والإعواز، وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء، كل من اختص به من المقلدين، وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب، ولم يبق إلا نقل مذاهبهم، وعمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول واتصال سندها بالرواية، لا محصول اليوم للفقه غير هذا. ومدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود منكوص على عقبه مهجور تقليده. وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة".

فمن تقدم ذكرهم من القراء (نافع وأبو عمرو والكسائي) كانوا يختارون القراءة على أساس الشهرة والكثرة؛ فهم سلف المتأخرين الذين يعتمدون الشهرة في اختيار المقدم أداء، وبالمقابل هناك من القراء من يحرر القراءات؛ فيجرد كل قراءة على حدة ولا يختار من عدة قراءات، مثل الإمام عاصم الذي حرر قراءته على عبد الرحمن السلمي عن علي وأقرأها لصاحبه حفص، وحرر قراءته على زر عن ابن مسعود وأقرأها لصاحبه شعبة، وقال الداني (جامع البيان: اللوحة: 34 ب): "وكان الأعمش يجرد حرف ابن مسعود وكان ابن أبي ليلى يجرد حرف علي وكان أبو إسحاق السبيعي يقرأ من هذا الحرف ومن هذا الحرف وكان حمران يقرأ قراءة ابن مسعود ولا يخالف مصحف عثمان رضوان الله عليه بغير حروف معاني عبد الله فيوافق معاني حروف عبد الله ولا يخرج من موافقة مصحف عثمان وهكذا كان اختيار حمزة". (وانظر غاية النهاية: 1/ 262). فهؤلاء أيضا سلف المتأخرين الذين يعتمدون التحريرات.

فإذا كنا في مقام الرواية فالأمر مختلف؛ فنحن نعرف مثلا أن الإصبهاني قد روي عنه توسط المنفصل وإثبات الألف في هاءنتم من طريق التجريد، وروي عنه قصر المنفصل وحذف الألف في هاءنتم من طريق الكفاية، فإذا قلنا مثلا: "سنقرأ بطريق التجريد للإصبهاني"، فيجب أن نقرأ بتوسط المنفصل وإثبات الألف في هاءنتم، وإذا قرأنا له بغير ذلك كان كذبا في الرواية ومخالفة للمنهج الملتزم، قال ابن حجر في الفتح (شرح الحديث: 4706): "والذي منع ذلك من القراء إنما هو محمول على ما إذا قرأ برواية خاصة؛ فإنه متى خلطها كان كاذبا على ذلك القارئ الخاص الذي شرع في إقراء روايته".

فالصواب في رأيي – إذا أردنا أن نحرر تحريرا صحيحا - أن نرجع إلى المصدر الذي اختار منه النشر الطريق التي سنقرأ بها ثم نلتزم بما فيه.

عسر التحريرات ويسر القرآن:

"القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان" كما يقول الشهاب البناء في مقدمة الإتحاف؛ فلا يلزم من صعوبة القراءات صعوبة القرآن نفسه، ومن الأدلة على تغاير حقيقتي القرآن والقراءات أنه لا يلزم من إنكار بعض القراءات المتواترة إنكار القرآن نفسه، فهذا الإمام ابن جرير الطبري قد أنكر كثيرا من القراءات المتواترة، ولا شك أن إنكار قراءة متواترة هو خطأ جسيم، ولكنه ليس كفرا كإنكار القرآن نفسه، ومن ثم فلم يقل أحد بكفر الطبري، لأنه إنما أنكر قراءة معينة بشبهة قامت في ذهنه، ولكنه لم ينكر كل القراءات.

فالقرآن الكريم قد يسره الله تعالى للذكر، وتيسره حاصل بقراءته بدون التزام قراءة معينة أي: بالخلط بين القراءات المتواترة، وحاصل أيضا بقراءته بطريق واحدة، وفي هاتين الحالتين لا يتصور عدم التيسر.

أما من سمت به همته إلى أن يقرأ القرآن من زهاء ألف طريق، في ستة وثلاثين كتابا (هي طرق النشر ومصادره) فلا شك أنه اهتم بشيء صعب، قد يسهل عليه وقد يعسر "وإنه ليسير على من يسره الله عليه"؛ لأنه لا يهتم بمجرد قراءة القرآن نفسه، وإنما يهتم بحفظ أكثر القراءات، ولو كان يهتم بمجرد قراءة القرآن لكفاه أن يقرأه بطريق واحدة أو بالخلط بين القراءات المتواترة، وذلك أمر يسير؛ فلا يلزم إذن من تيسر القرآن تيسر حفظ أكثر القراءات.

والله أعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير