? ثمّ إنّ التداخل الكبير بين العلمين من حيث المادة المدروسة (نطق الكلمات القرآنية) وكثرة المسائل المشتركة (الصفات العارضة على وجه الخصوص كالمدّ والقصر والتفخيم والترقيق والإمالة والفتح ... ) كلّ ذلك سهّل اللبس والخلط بين العلمين
? كون المشتغلين بالقراءات والمصنفين فيها هم في الغالب الأعمّ ذاتهم المشتغلين بالتجويد والمصنفين فيه زاد من اللبس والخلط بين العلمين
لكن لا ينبغي أن نغفل أنّ بعض العلماء قد يتعمد الجمع بين العلمين لا لجهله بتمايزهما ولكن لنكتة يقصدها أو فائدة يريدها كما فعل الأستاذ المحقق فرغلي سيد عرباوي لما جمع بينهما في التعريف المتقدم فإنّه إنّما أراد الاستدلال على وجوب الأخذ بالتجويد بوجوب القراءات لأنّهما متلازمان لا يمكن الفصل بينهما لذا قال: " ... وهؤلاء الكرام قد نقلوا حروف القرآن [القراءات] وكيفية نطق هذه الحروف أي: التجويد , وهما أمران متلازمان لا يمكن أن ينفكّ احدهما عن الآخر, فمن قَبِلَ عنهم نقل الحروف [القراءات] , لزمه أن يقبل عنهم نقل الأداء أي التجويد"36
وممّا يؤكد التداخل واللبس بين العلمين [من جهة التعريفات] تعريف علم القراءات الذي لا يكاد يختلف عن تعريف التجويد فهو عندهم (علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوا لناقله) 37 فكلا العلمين يهتم بكيفية أداء كلمات القرآن ويختلفان في كون التجويد إنّما يهتم بها من حيث إعطاء الحروف حقّها ومستحقّها ـ كما سيأتي ـ بينما يهتم علم القراءات بها من حيث بيان الخلاف فيها معزوا لأصحابه ...
أما التعريفات التي فيها تداخلا بين التجويد والتغني فمنها ما هو صريح في ذلك كتعريف محمد عبد المنعم صاحب الروضة الندية حيث يقول38:"هو إعطاء الحروف حقّها في النطق بها على أتمّ وجه ... [إلى أن يقول] ... وأيضا تحسين الصوت بالتلاوة إن أمكن" وأكثر هذا التداخل إنّما يقع في التعريفات بسبب تلك العبارة الجميلة والمشهورة التي نقلها جلّ من كتب في علم التجويد ألا وهي (حلية الأداء وزينة القراءة) واستعملها الكثيرون في تعريف التجويد
قبل مواصلة تحليل التعريفات والانتقال إلى سلبيات أخرى نقف على نقاط موجزة نفرّق بها بين علم التجويد وفنّ التغني بالقرآن الكريم ...
? التغني متعلق بطبع الإنسان ولا يمكن تحصيله إلاّ إذا حباه الله تعالى بشيء من حسن الصوت ولطافته ... بينما التجويد أحكام تُتعلم وأداء يُتلقى يبلغ فيه القارئ الذروة بالرياضة والتطبيق المستمر حتى ولو لم يكن ذا صوت عذب شجيّ
? التغني مُفتقر للتجويد فلا يعدّ تغنيا حسنا صالحا إذا خلا من التجويد , ولا يفتقر التجويد للتغني
? التغني مستحب والتجويد واجب كما سيأتي إن شاء الله
? التغني إنّما يتمّ ببعض القرآن كحروف المدّ والغنن ونبر الصوت وهيئته من رفع وخفض وقوة وضعف ... بينما التجويد يطال جميع حروف القرآن دون أن يكون له علاقة بصفة الصوت وهيئته باعتبار القوة والضعف ونحو ذلك ... والله أعلم ...
3. التوسع في أوصافه وذكر أحكامه: فقد استغرق تعريف الشيخ محمد مصطفى بلال في هداية الطالبين39 للتجويد بقسميه العلمي والعملي40 حوالي ستّة عشرة سطراً؛ أكثر من مائة كلمة فهو أقرب إلى البيان والوصف منه إلى التعريف والضبط ولولا صنيعه وطريقة تقديمه التي لا يُفْهم منها إلاّ أنّه أراد تعريفه لما ذكرناه ها هنا؛ فقد عرّفه في اللغة ثمّ قال:"أما في اصطلاح القراء فهو قسمان: الأوّل: معرفة القواعد التي وضعها علماء التجويد وأئمة القراء من مخارج الحروف وصفاتها وبيان المثلين والمتقاربين والمتجانسين وأحكام النون الساكنة والتنوين وأحكام الميم الساكنة والمدّ وأقسامه وأحكامه .... " كلّ ذلك تحت عنوان جانبي (تعريفه) ومثله ما جاء في مذكرة الشيخ شراطي عليه رحمة الله: "هو قراءة القرآن بتمهّلٍ وإعطاء كلّ حرفٍ حقّه من إشباعِ المدّ وتوفيّة الغنّات وتحقيق الهمزة وتبيين الحروف واعتماد الإظهار والتشديدات"41 ومثله تعريف شيخ الإسلام زكريا الأنصاري42 "هو إعطاء الحروف حقّها من صفة لازمة لها من همس وشدّة ورخاوة ونحوها ممّا مرّ وإعطاؤها مستحقها ممّا ينشأ عن الصفات المذكورة كترقيق المستفل وتفخيم المستعلي ونحوها ... " وأشدّ من ذلك تعريف الهذلي رحمه الله "فأمّا تجويد الحروف فمعرفة ألفاظها وقراءتها وأصولها وفروعها وحدودها
¥