تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما حكاية " من لطمك على خدك الأيمن فحَوِّل له الآخر " فهذا كلام لا يسمن ولا يغنى من جوع، ولا يترتب عليه إلا خراب المجتمعات والدول، وفوز الذئاب والكلاب من البشر بكل شىء، وذهاب الناس الطيبين فى ستين داهية غير مأسوف عليهم من أحد!

ثم أين هذا الصنف الأبله من الناس الذى تضربه على خده الأيمن فيدير لك الأيسر لتَحِنّ عليه بما لذّ وطاب من الصفع والإهانة كيلا يشكو أحد الخدين من التفرقة بينه وبين أخيه؟ أَرُونِى نصرانيا واحدا يفعل ذلك! هذه تشنجات لفظية لا أكثر!

بل إن المسيح نفسه لم يفعل هذا! حتى الصَّلْب، الذى يزعمون أنه عليه السلام إنما أُرْسِل إلى الأرض ليتحمله فداءً للبشر الخُطَاة، ظل يسوّف فيه ويحاول تجنبه ما أمكن، وعندما وقع أخيرا فى أيدى الجنود وأخذوا يعتدون عليه بالشتم والضرب كان يعترض على ما يوجهونه إليه من أذى. بل إنه، وهو فوق الصليب، أخذ يجأر إلى ربه كى يزيح عنه تلك الكأس المرة. وهذا كله قد سجَّله مؤلفو الأناجيل أنفسهم!

وعلى كل حال فإن المقارنة بينه وبين الرسول لا تصح إلا على مستوى الحياة الفردية الشخصية، أما على مستوى الحُكْم فلا، لأن عيسى عليه السلام، كما سبق أن وضّحت، لم يعش بعد النبوة أكثر من ثلاثة أعوام، ولم يتولَّ أى منصب إدارى، فضلا عن أن يكون حاكما يرأس دولة ويدبِّر شؤونها ويمارس الحرب والسياسة ويشرّع للناس ويقضى بينهم كرسولنا الكريم.

ترى هل يمكن أن تقوم دولة دون محاكم وقضاة وسجون؟

وبالمناسبة فقد أخطأ الأغبياء هنا غلطة سخيفة سخافة عقولهم، إذ ظنوا أن قوله تعالى لرسوله الكريم: " فإن تنازعتم فى شىء فرُدّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " (النساء / 59) يتناقض مع قوله جل شأنه: " أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون " (الزمر/ 39)، إذ يتساءلون: كيف يأمر الله رسوله فى موضع بالحكم بين الناس، ثم يقول فى موضع آخر إن الله هو الذى يحكم بين العباد؟ ومن هنا اتهموا الرسول بأنه قد نسخ بالآية الثانية ما سبق أن قاله فى الآية الأولى، وسخروا منه وتطاولوا عليه (سورة المشركين/ 5 – 6). وفات هؤلاء الأغبياء أن الحكم فى آية " النساء " هو الحكم فى خصومات الدنيا، وهو من مهمة النبى عليه السلام، بخلاف الحكم فى آية " الزمر "، التى تتحدث عن الحساب الأخروى، وهو من اختصاص الله لا يشاركه فيه أحد. فهذان موضوعان مختلفان تماما كما يرى القراء، بيد أن البهائم لا يفهمون!

كلام السخفاء إذن فى تفضيل المسيح على النبى العربى هو كلام تافه لا قيمة له عند كل من له أدنى فهم للحياة والتاريخ والطبيعة البشرية والمجتمعات الإنسانية!

ثم تعالَوْا بنا إلى واقع الحياة، فماذا نجد؟

لننظرْ إلى الحروب التى خاضها النصارى وتلك التى خاضها المسلمون ونقارن بينهما.

وأول ما يلفت النظر بطبيعة الحال أن النصارى قد خاضوا الحروب وقاتلوا وقَتَلوا ولم يديروا خدهم لا اليمين ولا الشمال لأحد، اللهم إلا كِبْرًا وبَطَرًا وتجبُّرا. ومع هذا فإنهم ما زالوا سادرين فى سخفهم ورقاعتهم وسماجتهم ومحاضرتهم لنا عن التسامح والمسكنة والتواضع وإدارة خدك الأيسر لمن يصفعك على أخيه الأيمن وترك إزارك له أيضا إذا أخذ منك رداءك. لقد أبادوا أمما من على وجه الأرض فلم تبق لها من باقية: حدث هذا فى أمريكا على يد الأوربيين الذين هاجروا إليها فى مطالع العصور الحديثة وظلوا يشنون الغارات على الهنود الحمر أصحاب البلاد وينشرون بينهم الأوبئة التى لم يكن لهم بها عهد حتى أفنَوْهم عن بكرة أبيهم تقريبا، وذلك بمباركة القساوسة الناطقين باسم المسيح وحاملى رسالة التواضع والمحبة والتسامح وإدارة الخد الأيسر، والتنازل عن الرداء والإزار معا وسير صاحبهما عاريًا حافيًا كما ولدته أمه!

وحدث هذا أيضا فى أستراليا نحو ذلك الوقت!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير