[المجلس الثالث من مجالس محمد الأنصاري الأندلسي مع النصارى]
ـ[سمير القدوري]ــــــــ[02 Jun 2006, 03:09 ص]ـ
قال محمد الأنصاري في الباب 35 من رسالة السائل والمجيب:
المجلس الثالث بمدينة مجريط أعادها الله للإسلام. كان هذا المجلس في شارع قصر الملك، ونحن ننتظر خروجه.
اجتمع إلي [فيه] جماعة من الأساقفة والشمامسة، فقالوا: "إنا سائلوك عن شيء وطالبون جوابك عليه، وهو أنَّا نعلم أنك تتعاطى شيئاً من علوم شريعتك، وقد اطَّلعت أيضاً على شريعتنا، وينبغي أن يكون قد ظهر لك الحق، فلم لا تدخل في دين المسيح والعهد الصريح؟ وأنت تعلم فضل المسيح ودينكم يُثَبِّته ويقره، وأنتم تقولون إنه "رسول الله وكلمته، ألقاها إلى مريم وروح منه"، وهذا الكلام يؤذن باتفاقكم معنا إذ قال فيه: "وروح منه"، ونحن نقول: "باسم الآب والإبن وروح القدس"، ثم نقول إلهاً واحداً، فما جوابك عن هذا؟ ".
قلت: "عَيِّنوا [لي] واحداً منكم للكلام عنكم كي أجيبه".
فأشاروا إلى واحد منهم، فقال: "تكلم! ".
قلت: أما قولكم إني قد اطَّلعت على الحق، فلعمري إنه لكذلك، ولقد ظهر لي من اضطراب أحوالكم ما لم يكن في علمي، ولا أن واحداً من ولد آدم يقول بمثل قولكم، وسأبين لك ذلك إن شاء الله عز وجل بعد أن أبين لك ما ذكرت من نص كتابنا.
اعلم أن كل ما وَرَدَ من إضافة [روح] المسيح إلى الله إنما هي إضافة تشريف وتكريم، كما يقال في المسجد بيت الله، ولا شك أن البيوت كلها لله، وإنما خُصَّص المسجد بإضافته إلى الله لشرفه بين البقاع، وأنتم تتعاطون هذا الكلام صباحاً ومساءً، فإضافتكم جل الأمور إلى الله لا إضافة حقيقية، كما زلت بكم القدم في اعتقادها، إذ هو غير الحلول، وربنا يتعالى عن ذلك، فهذا معنى ما ذكرت من نص كتابنا.
وأما ما قُلتَ أنه يظهر لي من حق دينكم، فقد اتضح لي من ذلك ما لا أحتاج معه إلى شاهد غيره على بطلانه وتناقضه، وذلك من الإنجيل الذي بين أيديكم، وهو أنكم تقولون من جهة أنه الله، ومن جهة أخرى أنه ابن الله.
وهذه القولة الشنعاء لا تستند إلى أصل في دينكم، ولا نُصَّ عليها في كتاب من الكتب التي بين أيديكم بوجه ولا بحال، بل المنصوص الذي في إنجيلكم على لسان المسيح هو خلاف ما تعتقدون من كل وجه، إذ فيه تكذيبكم على كل حال.
فأول ذلك من رواية يحيى عليه السلام، أن المسيح لما رأى تكذيب اليهود إياه وإذايتهم له، قال لأصحابه: "اخرجوا بنا إلى بلاد جلجال لعلهم يقبلون مني ما جئت به، لأنه لم يُقبَل قط نبي بأرضه". فقد صرَّح ونصَّ أنه نبي غير مقبول منه، فهلاَّ قال: "لم يُقبَل قط إله" كما قال: "لم يٌقبَل نبي".
وفي فصل آخر منه، لما ذهب إلى مدينة سام ووجد العجوز تبكي على قبر ابنها وقد اشتدّ حزنها [عليه]، فدعا الله وأحياه لها حتى كلَّمه هو وكلَّمته العجوز، فقالت العجوز وجميع من حضر "إن النبي لنبي كريم"، فهلاَّ قالوا: "إله" أو هلاَّ ردَّ عليهم فيما قالوه، بل لو علِم بنو إسرائيل منه دعوى الإلهية لقتلوه لحينه، وزادوا في التشنيع عليه، إذ كانوا أحرص الناس على استنقاصه والنَّيْل منه بقصد تكذيبه، وكانوا يحفظون عليه كل ما يَلفظ، ولو لَفظ بشيء مما تزعمون لكان ذلك قُرة أعينهم، لأنهم كانوا يلتمسون مثل [ذلك] ليغروا به جهالهم، ولو سمعوا ذلك منه لابتهجوا بذكره تشنيعاً عليه، ولسطَّروه إلى آخر الدهر. ولم يُحفَظ قط عنهم أنهم أنكروا عليه إلا دعوى النبوءة، وهم قومه ورهطه ومباشروه.
وفي فصل من الإنجيل أيضاً أن بني إسرائيل اجتمعوا إليه يطلبون منه معجزة قائلين: "حتى متى يطول دعواك، أظهِر لنا معجزة تدل على صدقك وإلا أرِحنا من نفسك". فقال: "إن القبيلة الفاجرة تطلب مني معجزة، ولست بمعطيها لهم أبداً ".
وفي فصل منه أيضاً: "لما جاءت أم السَبْدَيْ بولديها إلى المسيح، فقالت: "أيها المعلم الصالح! جئتك بابني هذين كي تجعل أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك فقال لها: لا تقولي أيها المعلم الصالح! فإنما الصالح الله، وليس جعل ابنيك يميناً ويساراً إلي، إنما ذلك إلى الله ربي ومولاي".
أما أنه معشر المكابرين، قد أقر بأن السعادة والشقاوة بيد الله، وأن له ربا ومولى، وكذلك المرأة المذكورة لم تقل: "يا رب! " وإنما قالت: "أيها المعلم الصالح! ".
¥