صريحاً. أما الاستشراق السياسي فهو أمر عظيم لا أغمس لساني فيه، وهو موجود في جميع الدول، إلاّ أنه ليس على المستوى الأكاديمي الجامعي بل له علاقة بالعلوم السياسية والاجتماعية أكثر منها باللغة العربية والحضارة الإسلامية وما نحن بصدده في هذا الملتقى. وهؤلاء وأولئك جميعاً لا صلة لهم بالاستشراق بمعناه الأصيل , فكيف يكون هذا وذاك مستشرقاً ولم يقرأ سطراً في صحيح البخاري ولا سطراً في كتب التفسير معاصرةً كانت أو بقلم القدماء ذوي الخبرة والنباهة. لقد ذكرت في اللقاء اللغات الرئيسية المعتمدة قبل غيرها، ولم أقصد تجاهل
اللغات الأخري التي لها صلة بالحضارة الإسلامية كالفارسية وما ذكرتم أنتم من اللغات الأخرى إلاّ أنّ اللغات الإفريقية التي لا تحصى، وحضارات الناطقين بها جنوب الصحراء الكبرى تابعةٌ للعلومِ الأفريقيةِ لا الاستشراقية بالضرورة كما ترون لم يزل الاختلاف قائماً بيننا في تعريف الاستشراق , فليكن! وفي الاختلاف رحمة.
نعم , يعتبرُ الاستشراقُ - قديماً وحديثاً- القرآنَ مصدراً أساسياً للدراسات الاسلامية، بل حتى لدراسة المجتمع العربي في الجاهلية (مثلاً من خلال آيات التحدي في فجر الاسلام، ولا يرى فيه وحياً مُنَزَّلاً من الخالق؛ إِذْ الباحثُ لا يهتم بالخالق ولا بصفاتهِ , فمن هنا أنتم في وادٍ، وأنا في وادٍ آخر فلا بأس بذلك عند توفر الاحترام المتبادل بين الجانبين، وعدم مسّ معتقدات الآخرين بكلمة سوءٍ، وهذا الموقف اللاديني أو قل: العلماني ليس إلاّ حَجَرَ عثرةٍ في جَميع الميادين.
أما قولكم متسائلاً ولى هنا تعليق أرجو أن يتسع صدرك له، ألا وهو أنَّ الباحثين المسلمين لا تفوتهم هذه الملاحظة أبداً، وإلا فهل تستطيع أن تتذكر أن أحدهم مثلا قد عرض عليك ذات مرة الدخول فى الإسلام؟ لا أظنُّ أن هذا قد حصل، وحتى لو كان حصل فهو أمر نادر، بل شاذ لا يقاس عليه كما تعرف). يا د. إبراهيم! إنني لا أظنكم تعيشون في عزلةٍ مطلقةٍ ـ مع ما فيها من فضائلٍ أوقات الفتنة ـ وبعيداً عن الوقائع!
لم أقض يوماً في البلاد العربية بصفةٍ رسميةٍ بغير أَن عَرَضَ عليَّ هذا أو ذاك الإسلام، ودعاني إلى الدخول فيه! حصل هذا عدةَ مراتٍ، وعلى مستوياتٍ مختلفة، وعلى صيغته المختلفة أيضا: من الوزير والأستاذ الجامعي الكريم إلى طالب العلم المتحمس حتى إلى سائق سيارة الأجرةِ الماهر.
فيما يتعلق بتخطئة القرآن - كما تقولون- فأودّ أن أقتصر على ما هو الأهم، كان هناك مشروع في النص القرآني قبل الحرب العالمية الثانية، وجَمعَ تلاميذُ نولدكه المشهورون المتخصصون في القراءات نسخاً للقُرآنِ بغرض تحقيقِ النصِّ القرآنيِّ تَحقيقاً علميَّاً كما تُحقَّقُ كتبُ التراث. إذ ما بين يدينا مطبوعاً هو النص المتفق عليه وليس نصاً مُحقَّقاً بِمعنى التحقيق. ويقال: إِنَّ هذه المَجموعة من النسخ قد فُقِدت أثناءَ الحربِ ولا أحدَ يعلمُ بوجُودِها، إلاَّ أَنَّ هناك مَن يَزعمُ أَنَّها في المكتبة الدوليةِ في مِونيخ، والله أعلم.
لدينا اليوم عدةُ نُسخٍ ثَمينةٍ ونادرةٍ، مثل المصاحف التي في جامع صنعاء وفي غيرها في المكتبات. بعضها على البَردي، وبعضها الآخر على الرَّقِّ أو الكاغد، لو قام مجموعة من العلماء بتنفيذ هذا العَمَلِ الضخم من أجل إخراج النصِّ القرآنيِّ على منهج الدراسة المقارنة الإجمالية للنصِّ synopsis لَما كانَ هناك مجالٌ للجدال حول تخطئةِ (القرآن). رُبَّما يترتب على ذلك ترتيبٌ آخر , حتى ولو كان جزئي , للآيات
كما قد نحصل على كلمةِ نَقصٍ هنا، وكلمةِ زيادةٍ هناكَ الخ، وهذه الأمور كلها واردة عند الدراسة المقارنة للنص.
حدث ذلك ـ نعم! ـ عند دراسة النصوص في الإنجيل، وإذا كانت هذه الكتب المواد الأولى لتطبيق هذا المنهج على النص حيث وضع الباحثون النصوص القِبطيَّةَ أيضاً في اعتبارهم، على غير رضى الكنيسة الكاثوليكية، فأين الباحث من الكنيسة عندما يبحث؟ لقد تمَّ الترتيب التأريخي للنصوص مقارناً بعضها ببعض فإذا هناك في بعض النصوص القبطية أَنَّ عيسى لم يَمُتْ على صَليبٍ، بل هو ينظرُ من عند ربهِ على مَنْ صُلِبَ مَكانَهُ! هل هذا مفاجأة؟ كلا و هو نتيجة البحث العلمي، ومعاملة النصوص معاملة علميةً بدون القيودِ الاعتقادية. ومن هنا اسمح لي أَن أتساءَلَ بكلِّ رِفقٍ وهُدوءٍ عَن صحةِ قولك وما دام هذا الاستعمال قد ورد في القرآن فمعنى ذلك أنه صحيح).
فلا علاقة لهذا الموقفِ مِمَّا تسمونه بالحقدِ المَجنونِ، إذ يجب ألا تنسى أنّ هناك بحثاً علمياً أكاديمياً منصفاً بغير آراء مسبقةٍ على نتائج البحث.
وفي الختام تعليق قصيرٌ على ما ذكرت حول نولدكه وأعماله وأسرفتم فيه - حسب رأيي - يجب ألا ننسى أنَّ اللغة لا تعيش في عزلةٍ، بلا تأثير خارجي، وتطورٍ داخلي , وللغة دائماً قواعدها الثابتة عرفها العرب وشعراؤهم جيداً وجاوزوا هذه القواعد حيناً (ما يجوز للشاعر لا يجوز لغيره) وتمسكوا بها حيناً آخر وهم أسوة لغوية لنا، والقرآن كذلك. ومن هنا منطلق نولدكه العلمي في تأملاته في النص , وليس على أساس أَنَّه قرآن، بل على أساسِ ما جاء فيه كنصٍّ , وهنا أعيد قولي حول مسألة تحقيق النص. ولك الخير والعاقية
¥