تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أرجو التكرم بالتفصيل في مناقشة هذه المحاور الأربعة.

أولاً:

لقد أوْلى الإسلام بالفعل عناية بالحياة الدنيا ولكن بقدر، ويبدو أن الإسلام يبالغ في الاهتمام بالحياة الدنيا إذا ما قُورن بالمسيحية المزوّرة التي دعت إلى الرهبنة، وتطرفت في قمع الفطرة الإنسانية المحتاجة إلى البلاغ في طريق الآخرة.

ولكن المغالطة العلمانية تقوم على الإغفال والإبراز:

فيستدل العلماني بأن الدنيا ذُكرت في القرآن 115 مرة وهذا يعني أن الدنيوية " العلمانية " لها أصولها القرآنية وهذا هو الإبراز، أما الإغفال فيقوم على طمس وتجاهل أن الدنيا عندما ذُكرت في القرآن غالباً تذكر بالذم والامتهان والتحذير من بهرجها وزخرفها، وأن المستدل بالآيات يغالط دون أن يخجل بل إنه عندما يقول: إن الدنيا ليست في القرآن مصدر إفلاس كما يصورها المغالون، يعلم أنه يتجافى عن الحقيقة وهي إلى جواره، لأنه لو تأمل في الآيات التي قام بإحصائها لوجد أن القرآن هو الذي يحكم على الحياة الدنيا بأنها " مَتَاعُ الْغُرُورِ " و " هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ " [الكهف: 45]. وليس المغالون.

إن الأصل في دعوة القرآن هي الآخرة " وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " [العنكبوت: 64]. والدنيا بُلْغة إلى الآخرة، ووسيلة لا بد من الأخذ بها، ولا بد من الإعمار والقيام بالأمانة، ولكن الآخرة في النهاية هي الغاية وهي الجوهر. " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " [القصص: 77]. ولكن الآخرة هي المراد والمقصد " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ " إن الأصل في دعوة القرآن الابتعاد عن الانخراط الأعمى في الدنيوية من شهوات وملذات، والاكتفاء بـ َالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ، والحلال الذي فصله الله عز وجل في كتابه.

------

ثانياً:

وأما أن الإسلام دين علماني لأنه جعل الإنسان محور الكون، فالمقدمة صحيحة، والنتيجة كاذبة، فالإنسان فعلاً هو محور الكون في القرآن الكريم فهو " الخليفة " إني جاعل في الأرض خليفة " [البقرة: 30] وهو حامل الأمانة " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا " [الأحزاب: 72].

ولكن ههنا مغالطة أخرى أيضاً تقوم على الإغفال والإبراز:

الإبراز هو الإشادة بالموقف الإيجابي للقرآن من الإنسان، والإغفال هو تجاهل موقف القرآن من الإنسان المنحط والمغرور. الإنسان المحور في القرآن الكريم هو الإنسان الذي حُبِي بالعقل والعلم " وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " [البقرة: 31] وشُرّف بالتكليف " وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " [الذاريات: 56] وكرم بالرسالة " قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ " [آل عمران: 183] وأُجيب على كل أسئلته حتى لا يتخبط في الظلام، واُمر بالعبادة لتشبع روحه، ودُعي إلى التفكر والنظر ليشبع عقله، ورُخّص له التمتع بالطيبات ليشبع جسده، وحُذّر من الإسراف والانحراف حتى لا تنزو نفسه، وتجمح غريزته، ويعسر عليه حينئذ حفظ الأمانة التي رضي بحملها.

الإنسان في القرآن يمكن أن يسمو حتى يقترب من الملأ الأعلى، ويصبح أسمى من الكون، وأشرف من كل ما فيه، ويصدق عليه عندئذ قول الحق عز وجل: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ " [الإسراء: 70] و " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " [التين: 4] ولكنه يمكن أيضاً أن ينحط ويهوي في مدارك الشقاء حتى يصبح في " أسفل سافلين " [التين: 5] ويقول: " يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا " [النبأ: 40] ويصبح أسوأ من البهائم " أُوْلئكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ " [الأعراف: 179]. هذا ما يغفله الخطاب العلماني ليكرس مركزية الإنسان في الكون، وسيادته المطلقة فيه كما أرادت العلمانية الغربية في مرحلة من مراحلها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير