- ولكن يقال هنا: إن العهد المعقود بكل حرية بين الله والإنسان يُحمِّل الإنسان التزامات وواجبات قبِل أن يلتزم بها الإنسان نفسه فلماذا يراوغ لينقض العهد ويتحلل من مسؤلياته، ويتبرم بطقوس الطاعة والعبادة. إن الإنسان قبل التكليف مقابل الخلافة في الأرض فعليه أن يفي بالتزاماته.
ولكن الخطاب العلماني يريد أن يعيد المفاوضات من جديد بينه وبين الخالق عز وجل ليقرر الإنسان بناء على نموه المعرفي ماذا يقبل وماذا يرفض من الوحي إذ "" الوحي يكون موجوداً كلما جاءت لغة جديدة لتعدل جذرياً نظرة الإنسان إلى وضعه إلى كينونته في العالم إلى علاقته بالتاريخ إلى نشاطه في إنتاج المعنى "". الإنسان هذه المرة هو الذي يريد أن يملي على الباري عز وجل ماذا يريد، هو الذي يسهم ويشترك في إنتاج المعنى، الوحي يصبح من الإنسان من الأسفل، والباري عز وجل عليه أن يبارك ويقبل.
ومع أن نسخ الوحي المتلاحقة والرسالات المتتابعة لا تحمل تغييراً جذرياً - كما يزعم الخطاب المذكور - إلى الكون لأنها في الأصل نسخة واحدة من حيث القضايا الكونية والمصيرية المشتركة للإنسان، والتغيير لا يمس إلا التفاصيل التشريعية، وبعض الأحكام، إلا أن الخطاب العلماني يريد أن يبقى الباب مفتوحاً لتعديل العهد والميثاق، يريد أن تظل اتفاقيات السلام بينه وبين خالقه دائماً مفتوحة وفي نقطة الصفر، ودائماً قابلة للمراجعة والتغيير، وغير خاضعة للحسم والإلزام ليظل التنزيل متواصلاً من داخل الإنسان فـ "" التنزيل هو ورود هكذا يُكوِّن معنى غير معهود، يفتح إمكانات غير محدودة أو متواترة بدلالاتها على الوجود الإنساني، وردوده إلى الحيِّز الداخلي للإنسان إلى قلبه "".
هذا الورود لا يمكن أن يُفهم منه أن الوحي هابط من الأعلى إلى الإنسان لأن هذا سيُخرج أشكالاً كثيرة من الوحي يقول أركون: "" إن تعريفنا للتنزيل له هذه المزية، ويجعله يفسح المجال لتعاليم بوذا وكونفوشيوس وحكماء إفريقيا وجميع الأصوات العظمى التي تحمل تجربة المجموعة البشرية الجماعية لتُسقطَها على مصائر جديدة، ولتغني التجربة الإنسانية للألوهية "".
في هذا النص السابق يلتقي كل من حنفي وأركون في اعتبار الوحي والألوهية كلتاهما تجربة بشرية إنسانية تخضعان لإرادة البشر ومطالبهم فالوحي "" تركيبة اجتماعية لغوية مُدعّمة من قبل العصبيات التاريخية المشتركة ""، "" وهذا هو معنى الوحي الذي يهبط كلما وجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقرار منه المستقبل الروحي للجماعة "".
ويلتقيان كذلك في اعتبار الوحي تجربة شعورية "" إن الوحي حدوث معنى جديد في الفضاء الداخلي للإنسان، القرآن يقول: في القلب، وهذا المعنى يفتح إمكانيات لا نهائية أو متواترة من المعاني بالنسبة إلى الوجود البشري "".
وهكذا يصبح الوحي في النصوص السابقة شاملاً لكل خواطر الإنسان وهواجسه ومشاعره ما دامت تحدث في القلب الفضاء الداخلي للإنسان، وشاملاً لكل جهود المصلحين عبر التاريخ من بوذا إلى كونفوشيوس وربما أركون وحنفي، فالنبوة ليست بالضرورة أن تكون علاقة مخصوصة بالله عز وجل وليست بالضرورة ذات طابع ديني ففي الشعر نبوءة، وهذا شاعر كأدونيس يذهب إلى أنه نبي وثني، والقرآن شكل من أشكال النبوءة.
وبذلك يصبح الوحي في الخطاب العلماني "" أوسع من أن يحصره معتقد أو تستنفده قراءة "" أي يتحول إلى مفهوم غائم مُشْكِل كما أراد الخطاب العلماني لكل إنسان الحق في أن يعبر عنه كما يشاء ويفهمه كما يريد، ويقرأه كما يحب، ويعتقده كما يحلو له.
هذه الرؤية الأركونية تحظى بالقبول المطلق لدى تلاميذه المُستَلبين لظاهرة الحداثة، والمنبهرين بالجديد أياً كان مضمونه ومحتواه، وهو ما يعبر عنه أحد هؤلاء التلاميذ بقوله: "" هكذا وبهذا الفهم التاريخي والنقدي للوحي يكون أركون قد تجاوز الفهم السائد للوحي بما هو نص مكتوب مغلق ونهائي الدلالة، وهو بذلك يؤكد على فاعلية العقل في فهم ظاهرة الوحي، ويجعل من النص الديني مفتوحاً ولا نهائي الدلالة، ويُخرج النص من الفهم الضيق المنغلق اللاتاريخي الذي تكرسه الثقافة الرسمية عادة والمحافظة، نظراً لفراغها الداخلي معرفياً وعدم قدرتها على الإضافة النوعية التي تتطلبها شروط اللحظة التاريخية لتفاعل النص الديني مع الواقع تفاعلاً حوارياً إيجابياً، ومنتجاً حضارياً
¥