كما يتضح الاكتساح العلماني لمجتمعاتنا فيما نلاحظه من شيوع النماذج الغربية في وسائل الإعلام، والمبادلات التجارية، والمواصلات، والسياحة، وكل المظاهر المادية، ويتبع ذلك كثيراً من القيم الجديدة، وبروز الخلل واضحاً بين الاستمساك بالأنماط التقليدية في شؤون الحياة والعيش، وبين ما نلاحظه من إقبال على التغرب بكل أشكاله الملازمة لحياتنا.
ولعل أهم المرتكزات التي تؤكد اجتياح العلمنة لحياتنا هو انقراض المدرسة القرآنية التقليدية التي كانت قائمةً في المساجد، وظهور نظام التعليم الغربي، بدلاً من نظام التعليم العتيق في الكتاتيب والمدارس القرآنية والجوامع.
كل هذا يؤكد – في المنظور العلماني - أن مسار العلمنة يفعل فعله في المجتمعات الإسلامية كأعمق ما يكون الفعل، وأن العلمنة ما فتئت تغزو المجتمعات العربية في العمق، وبصفة ثابتة لا رجعة فيها على المدى الطويل، المدى الوحيد الذي تعترف به الحضارة. كما يؤكد "" أن الإسلام قد فقد بعدُ قسماً كبيراً من قيمة تفسيره للكون، وهو من جهة أخرى في هذا المستوى يعيش نفس المشاكل التي تعيشها سائر الديانات التي أصبح اعتناقها ينزع شيئاً فشيئاً إلى أن يكون اختياراً قلقاً "".
000000000000000000
ثانياً: كيف ننقض مقولاتهم؟
بغض النظر عن اللهجة العدوانية والاستفزازية التي يتحدث بها عزيز العظمة والتي تفتقر إلى أدنى مقومات المنطق العلمي والمحاكمة العقلية، فإن ما يشير إليه هو وعبد المجيد الشرفي من مظاهر يؤكدون بها حتمية العلمنة وسيرورتها التي لا مفر منها - كما يزعمون - ليست اختياراً ديمقراطياً للأمة، ولم تقبله الأمة في أي يوم من الأيام، وكانت كل هذه المظاهر التي يتحدثون عنها مرفوضة، ولا تزال مرفوضة لدى الغالبية الساحقة من أبناء هذه الأمة.
إن إلغاء المحاكم الشرعية والكتاتيب وإلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية، وإلغاء التقويم الهجري، وفرْض النظم والقوانين الغربية الوضعية وغير ذلك من المظاهر فُرض على هذه الأمة بالحديد والنار، وبالقتل والإبادة، والتعذيب والإرهاب من شرذمة من الحكام المستبدين الذين يمارسون كل ذلك تحت مباركة الاستعمار الغربي وتحالف " العلمانية الفاشية ".
إن الأمة لو أتيح لها الآن الاختيار - بعد كل سنوات العلمنة - لاختارت إسلامها وشريعتها دون تردد وإن أبرز مثال على ذلك حالة تركيا التي مُورست فيها العلمانية الفاشية بأبشع صورها على يد أتاتورك وأتباعه ولكن ماذا حصدت العلمانية؟
يجيب على ذلك باحث تركي فيقول: "" ومع كل هذا - جهود العلمانية – فإن أهم سمة تلفت الانتباه في سلوك الأتراك هي أن رسوخ العقيدة الدينية وعمقها لم تتغيرا، وما زالا يفعلان فعلهما في مجموعات واسعة من الشعب التركي [بعد عقود طويلة من سياسة العلمنة]، ومع ذلك أيضاً لا يزال العلمانيون الأتراك يعتبرون ذلك انتصاراً للظلامية على العلم "".
وما يزعمه الشرفي من انقراض الكتاتيب والمدارس القرآنية كعلامة على الاكتساح العلماني قد ينطبق على البيئة التي يعيش فيها هو، والمحيط الذي ينتمي إليه، ولكن هذا لا يعني أكثر من أنه هو وأمثاله يعيشون في أبراجٍ عاجية بعيدين عن سواد الأمة، فالمساجد لا تزال عامرة بالقرآن في كل بقاع العالم الإسلامي، والمدارس القرآنية في العطلة الصيفية تنشط في كافة الأوساط الإسلامية.
إن ما أريد أن أقوله هنا: إن العلمانية في البلاد الإسلامية ظاهرة موجودة لا يمكن إنكارها، ولكنها لم تشكل في الإسلام إلا قشرة رقيقة جداً لا تلبث طويلاً حتى تيبس ثم تتساقط متناثرة، إنها لم تنفذ ولن تنفذ أبداً إلى جوهر الإسلام وحقيقته، لأن الإسلام بطبيعته يستعصي على العلمنة، وقد أثبت خلال القرنين الماضيين أنه ليس كالمسيحية في الرضوخ للعلمنة، ذلك لأن ثوابته ومرتكزاته لا تقبل العبث مهما جهد العابثون، والسبب هو أنها قائمة على معجزة خالدة رَسَمت حدود هذه الثوابت والمرتكزات رسماً واضحاً لا لبس فيه فجاءت " كمثل المحجة البيضاء ليلها كنهارها " وستظل دائماً شاهدة على زيف المزيفين، وإرجاف المرجفين.
¥