تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

واستخدم القرآن الكريم قياس الغائب على الشاهد الذي يسمى أيضاً قياس التمثيل ([15])، ولكن الفرق كبير جداً بين استخدام القرآن الكريم له، واستخدام المتكلمين، فالقرآن الكريم يستخدمه لإثبات قدرة الله عز وجل بأمور مشاهدة للإنسان أو معلومة له بشكل قطعي بدهي لا تنكره العقول ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:} وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ! قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ! الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ! أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ! إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {([16]). وهي الآيات التي ذكرناها قبل قليل مثالاً لقياس الأولى.

فالقرآن الكريم يقيس الغائب هنا وهو الإعادة بعد الموت على أمور معلومة قطعاً للإنسان وهو أنه وجد من لا شيء بعد أن لم يكن أو على شيء مشاهد محسوس يراه الإنسان بعينه وهو استخراج الحار من الشجر الأخضر الرطب أي استخراج الشيء من ضده ([17]).

ومثل ذلك قوله عز وجل:} وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {([18]). فقياس الغائب هنا وهو إحياء الموتى على أمر مشاهد محسوس لا يشك فيه عاقل وهو حياة الأرض بعد جفافها ويبسها.

هذا الاستخدام القرآني يختلف جداً عن استخدام بعض المتكلمين إذ جرت عادتهم على استخدامه في الصفات والأفعال الإلهية مما جر إلى كثير من الأخطاء.

واستخدم القرآن الكريم التسليم الجدلي للخصوم ثم كر على مقالاتهم بالنقض والإبطال ومن أمثلة ذلك قوله عز وجل:} مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ {([19]). والمعنى ليس مع الله عز وجل إله، ولو سلم ذلك لكم لزم من ذلك ذهاب كل إله بما خلق وعلوُّ أحدهما على الآخر، فلا يتم في العالم أمر، ولا ينتظم فيه حكم والواقع خلاف ذلك، لأن نظام العالم قائم على أحسن حال، والتناسق الموجود في الكون غاية في الجمال، فبطل إذن وجود آلهة غير الله عز وجل لأنه يلزم من ذلك اختلال النظام في العالم، وهذا النوع لا يختلف عن قياس الخلف إلا من جهة التسليم الجدلي المذكور اقتراضاً وليس حقيقة وواقعاً ([20]). ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله تعالى يحكي عن الأنبياء وأقوامهم:

} قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ! قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ {([21]) فهنا تسليم جدلي من الأنبياء عليهم السلام للمنكرين لنبوتهم لأنهم بشر بأنهم بشر حقاً ولكن ليست البشرية مانعاً من النبوة ([22]).

واستخدم القرآن الكريم طريقة القسمة ويضرب السيوطي ([23]) مثلاً لذلك بقوله عز وجل:} ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ … {([24]).

هذه الأمثلة القرآنية لاستخدام صور متعددة في الاستدلال، كان لها الأثر الكبير في مناهج المتكلمين الذين استخدموها بشكل واسع النطاق، ولكن ما ينبغي المقارنة بين المنهج القرآني في الاستدلال، والمنهج الكلامي، ذلك لأن القرآن الكريم لا يخوض في التقسيمات والتشقيقات والتفريعات المملة والمرهقة التي نجدها لدى بعض المتكلمين، والتي لا تؤدي إلا إلى إتعاب الناظر، وإجهاد عقله وفكره دون جدوى، إضافة إلى أن جدل المتكلمين موجه إلى العقل فقط، فهو لذلك يتسم بالجفاف والتعقيد ولا يعطي في الغالب ثمرة إيجابية، لأن اليقين العقلي لا يكفي وحده لدفع الناس إلى الالتزام، إذ لا بد من أن يقترن هذا اليقين بدافع من الحب أو الخوف أو الرغبة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير