وفي فصل آخر من الإنجيل أيضاً، يقول المسيح فيه للحواريين: "معشر الحواريين! لا تسلكوا في سائر الأجناس، واقتصروا على الغنم الرابضة من بيت إسرائيل، فإنما بعثت لبني إسرائيل خاصة ".
فهذا إقرار المسيح في غير ما نصٍّ من الإنجيل كثيرة، تركتُ ذكرها خوف الإطالة، فأتوني بنص واحد أنه قال إنه إله، وأنَّى لكم بما لم يُحفَظ عنه قط، وحاشا لجلاله من ذلك.
ومن الدلائل المكذِّبة لكم وأنتم لا تشعرون، ما اتفق عليه علماؤكم من قصة الصَّلب [أن المسيح] قال عندما أراد اليهود صلبه: "إلهي! إن نفسي قد جزعت من الموت".
وأن أمه مريم قالت هذا بزعمكم ونقلكم، وهو: "يا رب! إن كان يمكن أن يذوق الموت غير ابني في هذا المقام، فخلِّصه لي ". فإن كان ذلك، فلِم لَم تقل: "يا رب! خلص ولدك أو خلص نفسك"؟
ومن أعجب التخاليط والأغاليط قولكم في الحلول والاتحاد أنه قَصد أن تصلبه اليهود ليخلصهم من النار، ثم أنتم متفقون معشر المُهَوَّسِين أنه هرب واختفى حين طلبه بنو إسرائيل ليقتلوه، وأنهم طلبوه ودلهم عليه يهوذا الإشْكَرِيُوتُ بثلاثين درهماً كما في زعمكم.
أنظر إلى هذا التناقض الصريح، إذ لو كان [قصد] بالإلتحام قتل اليهود إياه- كما تزعمون- لم يفر ولم يخف عند وقوع ذلك حتى يُخفي نفسه، أو يدل عليه غيره، والفرار من الموت والاختفاء [من شِيَم] البشر الضعفاء، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
فيا ليت شعري! بأي تأويل وخيم تأولون هذه النصوص الصريحة. نعم، لقد انقطع تأويلكم "وضل عنكم ما كنتم تزعمون".
فلما [بَلَغْتُ] إلى هذا الحد، رأيت الأسقف كأنه أُلْقِمَ حَجَراً، وكَثُرَ لَغَطُ أصحابه قائلين: "ما قلتَ صحيح، إنه لم يُنَص على ذلك في الإنجيل، ولكن أساقفتنا فهموه من تأويلات وقرائن أحوال".
قلت لهم: "إن مَن يترك نص نَبِيِّهِ في أصل الاعتقاد الذي هو ركن الدين، ويعدل عنه إلى الضلال المبين بتأويلات لا تقوم على ساق من فسادها لأسخف وأجهل من أن يُخاطَب، أو أن يكون من زمرة العقلاء".
ثم راموا ضروباً من الأجوبة كلها حائدة عن الجواب، فقلت لهم: "إنكم لم تجيبوا, ولن تجيبوا، فما لي وللخوض معكم في غير شيء".
ثم انفصلت منهم [وقد امتلئوا] غيظاً وحِنْقاً، وشرعوا في إعابة دين الإسلام، وقد أردت الانصراف، فقلت: "اخسئوا صاغرين، فإن من يقول في معبوده من الشتائم- ظانّاً أنه يعظمه- ما قلتم من باب الأولى والأحرى يعيب دين غيره، ثم سِرْتُ وتركتهم.