تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

*أشار المؤلف إلى أن منهجية البيانيين المفضلة هي الاستدلال بالشاهد على الغائب، وهي دعوى غير مسلم بها، فلقد كان للأصوليين المتقدمين كلام في الاستحسان، والمصالح، والاستقراء، والاستنباط، وهي طرائق في الفهم والاستدلال مغايرة لقياس الشاهد على الغائب. كما أن للعلماء المسلمين في مجال العلوم الطبيعية، منهجاً تجريبيا متقدماً حتى إن المسلمين يعتبرون بحق وبشهادة الباحثين الغربيين أنفسهم سبّاقين إلى اكتشاف المنهج التجريبي، وعنهم أخذته أوروبا في عصر النهضة، وهي قضية لم يعطها الكاتب حقها من الاهتمام والتقدير الكافيين. هذه مسألة ... والمسألة الأخرى في هذا الصدد حول قيمة المنهج في الوصول إلى الحقيقة ... إن التقدم العلمي الهائل الذي تشهده العلوم التجريبية المعاصرة، ليس في الحقيقة ناتجاً عن تقدم المنهج إطلاقاً ... إنما هو في الواقع ناتج عن الإمكانات الهائلة التي أودعها الله في هذا الكون ... إنها عظمة الله تتبدى في عظمة خلقه، وليس ذلك ناجماً عن عظمة المناهج البشرية إن العلم يكتشف الطبيعة (الخلق) وقوانينها (السنن) ولا يخلقها من عدم ... بل إن لبعض علماء الفيزياء المرموقين المعاصرين وهو بول ديفيس البريطاني كتاباً سماه «ضد الطريقة - Against Method » يذكر فيه أن المنهج لم يكن في يوم من الأيام رائداً للبحث العلمي، بل كان دوماً متخلفاً وتابعاً للبحث العلمي!! فالدور الضخم الذي يعطيه الجابري للمنهج يحتاج إلى مراجعة وتدقيق.

*في حديث المؤلف عن مرحلة التدوين في العصر العباسي، أشار إلى ما كتبه ابن المقفع في رسالته التي سماها «رسالة الصحابة» حيث يرى فيها كما يرى محمد أركون إنها ذات نفس علماني واضح ... ! وحجتهم الوحيدة على ذلك: هو أنه لم يستشهد في هذه الرسالة بالقرآن، ولا بالحديث ولا بأي عنصر آخر من الموروث الإسلامي .. ! والحقيقة أن القارئ لهذه الرسالة لا يجد ذلك النفس العلماني المزعوم، وإنما غرض ابن المقفع الدعوة لتنظيم الدولة، وتوحيد القضاء، منعاً للاختلاط والاضطراب، وذلك باستخدام سلطة الخليفة دون أي دعوة ظاهرة أو خفية إلى تنحية الشريعة، أو تقديم بديل عنها، وهو مطلب لا يوجد أي غبار عليه، ولا يعتبر مطعناً في صاحبه!.

*يركز الجابري في دراساته المختلفة على البعد العربي لمناهج التفكير والمدارس التي يحلل إنتاجها، وهو بعد ليس له مبرر، ذلك أن هذا التراث شاركت في بنائه وتكوينه عقول مختلفة من شتى الشعوب الإسلامية، ولم ينفرد العرب في تكوينه ولا تدوينه، وإنما هو ثمرة لتضافر جهود آلاف من الباحثين المسلمين في شتى التخصصات، فلعل الكاتب خشي من سوء الفهم عند نقد العقل المسلم، إذ يفهم بعضهم ذلك بأنه نقد «للمنهج الإسلامي» وليس لمناهج «المفكرين المسلمين» والفرق بعيد بين الأمرين. ورغم وجاهة هذا الاحتمال، فإنه لا يكفي مبرراً لإضفاء صفة «قومية» على التراث الإسلامي، ويمكن تلافي مثل هذه المخاطر بالتنبيه عليها في مطلع أو خاتمة مثل هذه الدراسة.

*وأخيراً ... رغم النجاح الواضح الذي حالف المؤلف في تعرية تيارات الغنوص، والعرفان الرافضي والباطني والفلسفي والصوفي، وكذلك في الكشف عن مناطق الضعف والخلل عند بعض التيارات الأخرى، إلا أنه في ذات الوقت لم يبلور للقارئ الملامح النهائية للمشروع النهضوي المنشود الذي تتبناه هذه الدراسة وتدعو إليه ... فظاهر أن المؤلف لا يقف موقف الموتور المعادي للموروث الإسلامي، لكنه في ذات الوقت لم يبشر به، ويعتبره المخرج مما نعانيه من أزمة على شتى الصُعُد ..

إن الحلول التي قدمها المؤلف في نهاية كتابه عن العقل السياسي وهي:

«1 - تحويل القبيلة: إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي: لأحزاب أو نقابات ... الخ، وفتح الباب لقيام مجال سياسي حقيقي، تمارس فيه السياسة ويصل بين سلطة الحاكم وامتثال المحكوم.

2 - تحويل الغنيمة: إلى اقتصاد ضريبة في إطار اقتصادي إقليمي جهدي وفي إطار سوق عربية مشتركة تفسح المجال لقيام وحدة اقتصادية عربية تنموية.

3 - تحويل العقيدة: إلى مجال يسمح بحرية التفكير وحق الاختلاف والتحرر من سلطة الجماعة المغلقة والتحرر من سلطة عقل الطائفة والتعامل مع عقل اجتهادي نقدي» (العقل السياسي: ص 37).

هذه الحلول لا تمثل برنامجاً كافياً مبلوراً للخروج من أزمة التخلف والتبعية والتشرذم ... ولذلك فإنني أدعو الباحث وغيره من الجادين في الرغبة بنهوض هذه الأمة، ومحاولة استئناف مسيرتها القيادية لذاتها وللناس أدعوهم إلى مراجعة موقفهم من الحل الإسلامي، واتخاذ موقف أكثر علمية من الموقف الهلامي الذي يتخذه كثير منهم ... لابد لهم لكي يكونوا واقعيين مع أنفسهم أن ينحازوا للخيار الذي لا تقبل الأمة عنه بديلاً ... ألا وهو رفع شعار الحل الإسلامي، والتبشير به والدعوة إليه والسير الحثيث والفعلي لإنجازه ... {عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} (المائدة: 25) ... {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون} (البقرة: 138) ... {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس} (الحج: 78). والحمد لله رب العالمين.


(1) مما يؤسف له حقاً أن من بين المتمسكين بالنص في الإسلام من يتصور أن الإسلام ضد العقلانية، وأن مقتضى الوفاء للنص يعني الحرب والعداء للعقل، ولذلك يصفون المخالفين لهم بالعقلانيين، وهذا خطأ مركب، فعلماء السلف لم يكونوا يسمون أهل البدع إلا بأهل الأهواء لا أهل العقول، ولم يكونوا يحاربون العقل أبداً كيف والله تعالى يبين في كتابه الكريم أن هلاك الهالكين إنما كان بسبب ترك النص والعقل] وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [، وهذه العجالة لا تكفي لتوفية هذا الموضوع حقه.
(**) وفي رأينا أن ذلك الرأي ليس لسيء النية فقط وإنما يفهمه أيضاً حسن النية.

- البيان – عدد 71, ص:74, رجب 1414هـ.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير