فليس المسلمُ هو المقصود بالحديث بداهةً، ولمنافقُ ليس داخلاً فيه أيضاً لأنه أظهر الإسلام فلا سبيل لنا عليه، ولما أراد خالد بن الوليد t أن يقتل جدَّ الخوارج الذي قال للنبي r : اعدل يا محمد. قال له النبي r : " لا، لَعلَّهُ أن يكون يُصلِّي" قال خالد: وكم من مُصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال رسول الله r : " إني لم أومر أن أُنقِّب عن قلوب الناس، ولا أشقَّ بطونهم". أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث علي بن أبي طالب t. فلم يبق من أقسام الناس إلا الكافر.
فكلمة: "الناس" في الحديث من العامِّ الذي يراد به الخصوص، وقد ورد هذا صريحاً فيما رواه أبو داود (2642)، والنسائي (7/ 75)، والدارقطني (1/ 232)، والبيهقي (3/ 92) عن يحيى ابن أيوب، قال: حدثني حميدٌ أنه سمع أنساً مرفوعاً: "أُمرتُ أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ... الحديث".
وجماهير أهل العلم كأبي حنيفة ومالك وأحمد وجماهير أصحابهم أن الكافر لا يُقتل لمجرد كفره، ولذلك لا يُقتل الصبيان، ولا النساء، ولا الرهبان أصحاب الصوامع، ولا الزَّمني إلا إذا أعانوا بالقول أو بالفعل، إنما يُقتل من انتصب لحرب المسلمين، ومَنَعَ تبليغ الإسلام إلى مَنْ ورائهم وما علمنا قطُّ أن النبي r أَكْرَهَ أحداً على الإسلام، أو قتله لمجرد أنه كافر، بل من سالمه أو هادنه أو دخل معه في حلفٍ كان يكف عنه.
وذهب الشافعي وبعض أصحاب أحمد إلى قتل كل كافر وجعل العلة الكفر، والقول الأول هو الصواب الذي ينصره الكتاب والسنة.
ويدل على ذلك ما رواه سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله r إذا أمَّرَ أميراً على جيش أو سرية أوصاهُ في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً. ثم قال: "اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، في سبيل الله اغزوا وتغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيَّتُهُن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيءٌ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصنٍ فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تُخفروا ذممكم وذمم أصحابكم، أهون من أن تُخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصنٍ فأرادوك أن تُنزِلَهم على حكم الله،
فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا".
أخرجه مسلم (1731/ 2 - 3) وغيره.
ومجال القول واسع جداً لاسيما في رده على الحافظ ابن حجر، وقد استوفيت الرد عليه، وأبنت عن جهله وزغله في كتابي "الجهد الوفير في الرد على البيطري نافخ الكير" وقد كتبت منه مجلدةً، واللهُ أسألُ أن يُعينني على إتمامه على الوجه الذي يُرضيه عني.
وأُذكِّرُ "البيطري" أنه لن يكون أحسن حالاً من محمودٍ أبي رية والسيد صالح أبي بكر، ومن قبلهم غُلاةِ الروافضِ، فقد ذهبوا إلى مزبلة التاريخ، وبقيت السنة النبوية شامخة، يُقرِّبها الأساطين دانية القطاف إلى
جماهير المسلمين.
وقد أطلق بعض الأذكياء على مثل "البيطري" وأشياعه لقب "المجددينات" فقال له سامعه: ما هذا الجمع الغريب؟ ما هو بجمع مذكر سالم، ولا هو جمع مؤنث سالم! فقال له: هذا "جمع مُخَنَّثٍ" سالم، فأقسم له سامعه أن اللغة العربية في أشد الحاجة إلى هذا الجمع، خصوصاً في هذه الأيام.
فهي والله فوضى ولا عُمَرَ لها! وقد أعطاني الكتاب بعض أفاضل إخواني وطلب مني أن أرد والتمس مني ذلك، وطلب إبطال ما هنالك، فلما انفصلتُ بتُّ ليلتي متفكراً، فقرع خاطري ما قاله أبو سفيان يوم أُحُد: أفيكم محمدٌ؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عُمر؟ فقال النبي r " لا تجيبوه". تعاوناً به، وتحقيراً لشأنه. فلما قال: اُعلُ هبل. فقال لهم رسول الله r :
" ألا تجيبوه؟ " قالوا: وما نقول؟ قال: "قولوا: الله أعلى وأجل". فقال
أبو سفيان: لنا العُزّىَ ولا عُزى لكم. فقال لهم r: " قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم" فعلمتُ أن النبي r أمرهم أن يجيبوه إعلاء لجناب التوحيد، وإظهاراً لعزِّة من عبده المسلمون فحينئذٍ جرَّدتُ أسنة العزائم والردِّ، واستعنتُ على ردِّ أباطيله بالواحد الفرد، وليت مصنف هذا الهذيان، تَنكَّبَ عن ميدان الفرسان، ليسلم من أسنةِ ألسنتهم عِرضُه، وينطوي من بساط المشاجرة طوله وعرضه، ولم يسمع ما يضيق به صدره، ولم يَنهَتِكْ بين أفاصل الأمة ستره، وإن قد أبي إلا المهارشة والمناقشة، والمواحشة والمفاحشة، فليصبر على حزُ الغلاصم، وقطعُ الحلاقم، ونكز الأراقم، ونهش الضراغم، والبلاء المتراكم المتلاطم، ومتون الصوارم. فوالذي نفسي بيده ما بارز أهل الحقِّ قطُّ قِرنٌ، إلا كسروا قرنه، فقرع مِنْ نَدَمٍ سِنَّه، ولا ناجزهم خصم إلا بشروه بسوء منقلبه، وسدوا عليه طريق مذهبه لمهربه، ولا فاصحهم أحدٌ ـ ولو كان مثل خُطباءِِ إياد ـ إلا فصحوه وفضحوه، ولا كافحهم مقاتل ـ ولو كان من بقية قوم عاد ـ إلا كبوه على وجهه وبطحوه، هذا فعلهم مع الكُماةِ الذين وردوا المنايا تبرعاً، وشربوا كؤوسها تطوعاً، وسعوا إلى الموت الزُّؤام سعياً، وحسبوا طعم الحمام أرياً، والكُفَاةِ الذين استحقروا الأقران فلم يهُلهُم أمرٌ مَخُوفٌ، وجالوا في ميادين المناضلة واخترقوا الصفوف، وتجالدوا لدى المُجادلَةِ بقواطع السيوفِ.
والله غالبٌ على أمرِهِ ولكنَّ أكثر الناسِ لا يعلمون.
نفس المصدر السابق الفتوي رقم 4
¥